والسؤال الذي يُثار عادة من جانب بعض المدافعين عن "سلطة النصوص" هو: أليس هناك من سبيل لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ وهو سؤال ماكر خبيث. لأنه لا أحد يرفض النصوص، بل الرفض موجه إلى "سلطة النصوص" وهي السلطة المُضفاة على النصوص من جانب أتباع "النقل". والحقيقة أنه ليس هناك تصادم بين "العقل" و"النص" لسبب بديهي وبسيط، هو أن "العقل" هو الأداة الوحيدة الممكنة، والفعالية الإنسانية التي لا فعالية سواها، لفهم النص وشرحه وتفسيره. ولدينا هؤلاء المدافعون عن "النقل" بتشويه "العقل" والتقليل من شأنه.

إن السؤال لا يتعلق بقبول النص ولا برفضه، بل هو كيف يتلقى الإنسان النص ويتفاعل معه؟ لقد قام الإمام علي بن أبي طالب في رده المعروف جداً والمشهور على الخوارج حين قالوا: "لا حكم إلا لله" بتأسيس هذا الوعي الذي نحاول شرحه فقال: "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال". والدلالة الواضحة لهذا المبدأ المهم جداً والخطير، والمُغَّيب تماماً في الخطاب الديني المعاصر: إن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفهمهم هو الذي يحدد الدلالة ويصوغ المعنى.

وهذا كله ينفي وجود "تصادم" بين العقل والنص، وإنما بين العقل وسلطة النصوص؛ وذلك أنه حين تتحول النصوص إلى سلطة مطلقة ومرجعية شاملة بفعل الفكر الديني الذي حللناه في كثير من دراساتنا وأبحاثنا، تتضاءل سلطة العقل. وفي تضاؤل سلطة العقل يكمن التخلف الذي نعانيه على جميع المستويات والصعد. فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق قوله في الفقرة السابقة من أن سلطة العقل هي السلطة الوحيدة التي تُفهَم على أساسها النصوص الدينية، يصبح التقليل من شأن العقل مؤدياً مباشرة إلى إلغاء النصوص.

والنصوص في هذه الحالة تصبح مملوكة ملكية استئثار لبعض العقول التي تمارس هيمنتها باسم النصوص. والحقيقة أن سعي الخطاب الديني لتكريس سلطة النصوص ولتكريس شموليتها هو في الواقع تكريس لسلطة عقول أصحابه وممثليه على باقي العقول. وهكذا تتكرس شمولية تأويلاتهم واجتهاداتهم، فيصبح الخلاف معها كفراً وإلحاداً وهرطقةً وهي الصفات التي أُلصِقَت بكل اجتهادات الباحث.

Autor: نصر حامد أبو زيد

والسؤال الذي يُثار عادة من جانب بعض المدافعين عن "سلطة النصوص" هو: أليس هناك من سبيل لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ وهو سؤال ماكر خبيث. لأنه لا أحد يرفض النصوص، بل الرفض موجه إلى "سلطة النصوص" وهي السلطة المُضفاة على النصوص من جانب أتباع "النقل". والحقيقة أنه ليس هناك تصادم بين "العقل" و"النص" لسبب بديهي وبسيط، هو أن "العقل" هو الأداة الوحيدة الممكنة، والفعالية الإنسانية التي لا فعالية سواها، لفهم النص وشرحه وتفسيره. ولدينا هؤلاء المدافعون عن "النقل" بتشويه "العقل" والتقليل من شأنه.<br /><br />إن السؤال لا يتعلق بقبول النص ولا برفضه، بل هو كيف يتلقى الإنسان النص ويتفاعل معه؟ لقد قام الإمام علي بن أبي طالب في رده المعروف جداً والمشهور على الخوارج حين قالوا: "لا حكم إلا لله" بتأسيس هذا الوعي الذي نحاول شرحه فقال: "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال". والدلالة الواضحة لهذا المبدأ المهم جداً والخطير، والمُغَّيب تماماً في الخطاب الديني المعاصر: إن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفهمهم هو الذي يحدد الدلالة ويصوغ المعنى.<br /><br />وهذا كله ينفي وجود "تصادم" بين العقل والنص، وإنما بين العقل وسلطة النصوص؛ وذلك أنه حين تتحول النصوص إلى سلطة مطلقة ومرجعية شاملة بفعل الفكر الديني الذي حللناه في كثير من دراساتنا وأبحاثنا، تتضاءل سلطة العقل. وفي تضاؤل سلطة العقل يكمن التخلف الذي نعانيه على جميع المستويات والصعد. فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق قوله في الفقرة السابقة من أن سلطة العقل هي السلطة الوحيدة التي تُفهَم على أساسها النصوص الدينية، يصبح التقليل من شأن العقل مؤدياً مباشرة إلى إلغاء النصوص.<br /><br />والنصوص في هذه الحالة تصبح مملوكة ملكية استئثار لبعض العقول التي تمارس هيمنتها باسم النصوص. والحقيقة أن سعي الخطاب الديني لتكريس سلطة النصوص ولتكريس شموليتها هو في الواقع تكريس لسلطة عقول أصحابه وممثليه على باقي العقول. وهكذا تتكرس شمولية تأويلاتهم واجتهاداتهم، فيصبح الخلاف معها كفراً وإلحاداً وهرطقةً وهي الصفات التي أُلصِقَت بكل اجتهادات الباحث. - نصر حامد أبو زيد


©gutesprueche.com

Data privacy

Imprint
Contact
Wir benutzen Cookies

Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.

OK Ich lehne Cookies ab