وتعلَّمتُ منذ ذلك الحين ألاّ أُفرِط في أخذ الأشياء التي تُقال لي على محمل الجد . ليس لأنَّه يحق للناس أنْ يكذبوا عليك ، ولكن عندما يتعلَّق الأمر بالماضي ، تصبح الحقيقة مُبهمة بسرعة . وتبرز الأساطير في غضون ساعات ، وتسري الحكايات المُضخَّمة ، وسرعان ما تُدفَن الحقائق تحت جبلٍ من النظريات الغريبة . في المدينة ، أفضل مدخل هو أنْ تصدِّق فقط ما تُخبرك به عيناك . ولكن حتى هذا ليس مؤكّد النجاح . لأنَّ أشياء قليلة جداً فقط تبقى كما هي ، خاصة هنا ، لأنَّه يجب استيعاب أشياء كثيرة مع كل خطوة ، وهناك أشياء كثيرة تتحدّى الفهم . وكل ما تراه يُمكن أنْ يجرحك ، أو يختزلكَ ، وكأنما بمجرد رؤيتك لشيء يؤخذ جزءٌ منك . وغالباً تشعر أنَّ من الخطر أنْ تنظر ، وتنتابكَ رغبة في أنْ تُشيحَ عينيك ، أو حتى أنْ تُغمضهما . ولهذا السبب ، من السهل أنْ ترتبك ، أنْ لا تكون واثقاً مما إذا كنتَ ترى حقاً الشيء الذي تظن أنكَ تنظر إليه . فلعلك تتخيّله ، أو تخلطه مع شيءٍ آخر ، أو تتذكر شيئاً كنتَ قد شاهدته من قبل – أو لعلك تخيّلته من قبل . ها أنتَ ترى مدى تعقيد الأمر . ليس كافياً أنْ تنظر ببساطة وتقول لنفسك : ” أنا أنظر إلى ذلك الشيء ” ، ذلك أنَّ فعلَ هذا عندما يكون الغرض الماثل أمام عينيك هو قلم رصاص ، مثلاً ، هو أمر . ولكن ماذا يحدث عندما تجد نفسك تنظر إلى طفل ميّت ، إلى فتاة صغيرة ممدَّدة في الشارع عارية من أي ملابس ، ورأسها مُهشّم والدماء تجلّلها ؟ ماذا ستقول لنفسك حينئذٍ ؟ إنها ، كما ترى ، ليست مسألة بسيطة أنْ تقول وبلا مواربة : ” أنا أنظر إلى طفلة ميّتة ” . إنَّ عقلك يبدو عاجزاً عن صياغة الكلمات ، تعجز بصورة ما عن أنْ تفعل ذلك . لأنَّ الشيء الماثل أمام عينيك ليس شيئاً تستطيع أنْ تفصله بسهولة شديدة عن نفسك . هذا ما أعنيه بقولي يجرحك : لا يمكنك أنْ تكتفي بالنظر ، لأنَّ كل شيء ينتمي بصورة ما إليك ، يشكِّلُ جزءاً من القصة المطوية داخلك . وأعتقد أنَّ من الجيد أنْ تجعل نفسك قاسياً جداً بحيث لا شيء يستطيع أنْ يؤثر عليك بعد ذلك . لكنكَ ستصبح وحيداً ، منفصلاً تماماً عن كل شخص آخر بحيث تصبح الحياة مستحيلة . وهناك أشخاص ينجحون في فعل هذا هنا ، يجدون القوة للتحوُّل إلى وحوش ، لكنكَ ستُدهَش إذ تعلم قِلّة عددهم . أو ، بعبارة أخرى : لقد أصبحنا جميعاً وحوشاً ، ولكن ليس هناك مَنْ ليس في داخله بقايا الحياة كما كانت ذات مرة.
Author: Paul Auster