بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه أحدها من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط بجميع المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى الثاني من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى الثالث من حيث بقاء العلم أبد الأباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى والمعلوم قسمان متغيرات وأزليات أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلا فيكون نقصانا لا كمالا فكلما اعتقدت اعتقادا موافقا وتصور أن ينقلب المعتقد فيه كما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصا ويعود علمك جهلا ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلا بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالا في القلب القسم الثاني هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبديه إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا ولا الجائز محالا ولا المحال واجبا فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى ويبقى كمالا للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلا كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى قد أفلح من زكاها وقال عز وجل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد ج

Author: Abu Hamid al-Ghazali

بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه أحدها من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط بجميع المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى الثاني من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى الثالث من حيث بقاء العلم أبد الأباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى والمعلوم قسمان متغيرات وأزليات أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلا فيكون نقصانا لا كمالا فكلما اعتقدت اعتقادا موافقا وتصور أن ينقلب المعتقد فيه كما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصا ويعود علمك جهلا ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلا بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالا في القلب القسم الثاني هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبديه إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا ولا الجائز محالا ولا المحال واجبا فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى ويبقى كمالا للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلا كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى قد أفلح من زكاها وقال عز وجل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد ج - Abu Hamid al-Ghazali


©gutesprueche.com

Data privacy

Imprint
Contact
Wir benutzen Cookies

Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.

OK Ich lehne Cookies ab