وبين انتظار وانتظار يموت الانسان ، يموت ألف مرة ، يفقد الثقة ، تتلاشى إرادته ، يسقط ، ينهض ، يترنح ، يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت ، يصرخ دون صوت ، ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه ، يتذكّر ، يقاوم ، ينهار ، يسقط . يموت مرة أخرى ، ينهض من الموت ، يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن ان تُرى عبر الشبابيك ، يلامس حيات الرمل المتسربة في كل مكان ، يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلها تمده بمزيد من القوة على المقاومة ، على الصمود ، يفقد القدرة على الحديث ، يفقد القدرة على ابتلاع الماء ، يتحوّل الماء إلى ملح ، يتحول الزبد الى زبد ، يريد ان يصرخ ، ان يموت تماماً ، يريد أن تنشق الأرض فجأة وتبتلعه ، يريد ماء ، ظلاً ، وينتظر ..

حتى الزمن فى الصحراء يكتسب معنى آخر ، يتحوّل إلى ذرات صغيرة ، الثانية ، والدقيقة هي كل الزمن . ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية ، كالصحراء بلا نهاية ، ويطبق كالخيط المبلول القاسي ، يشدّ دون توقف على الرقبة ، يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها ، ويظل هكذا موتاً مؤكّداً منتظراً ساخراً مؤجّلاً ، فيحس الانسان يالاختناق ، وتتصاعد ضربات القلب ، وترتفع درجات الحرارة ، ويتحوّل لون الوجه إلى الزرقة ، ولا يستطيع الواحد ان ينظر الى الآخر خوف الانفجار او العويل .
والحراة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير . فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلة متناهية ، ويتضاعف رعبه مئات المرات .

والانسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شئ ، حتى على الموت ، فإنه يريده صاعقاً كاملاً نهائياً ، اما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شئ ، الدمار الذى يفتت الخلايا بقسوة تشبه النهش ، فإن هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل ، وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقف او الراحة .
هذا هو الانسان ، ذلك المخلوق الضئيل المتلاشى ، في مواجهة قوة غاشمة لا تدمره ولا تتركه ..

Author: عبد الرحمن منيف

وبين انتظار وانتظار يموت الانسان ، يموت ألف مرة ، يفقد الثقة ، تتلاشى إرادته ، يسقط ، ينهض ، يترنح ، يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت ، يصرخ دون صوت ، ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه ، يتذكّر ، يقاوم ، ينهار ، يسقط . يموت مرة أخرى ، ينهض من الموت ، يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن ان تُرى عبر الشبابيك ، يلامس حيات الرمل المتسربة في كل مكان ، يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلها تمده بمزيد من القوة على المقاومة ، على الصمود ، يفقد القدرة على الحديث ، يفقد القدرة على ابتلاع الماء ، يتحوّل الماء إلى ملح ، يتحول الزبد الى زبد ، يريد ان يصرخ ، ان يموت تماماً ، يريد أن تنشق الأرض فجأة وتبتلعه ، يريد ماء ، ظلاً ، وينتظر ..<br /><br />حتى الزمن فى الصحراء يكتسب معنى آخر ، يتحوّل إلى ذرات صغيرة ، الثانية ، والدقيقة هي كل الزمن . ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية ، كالصحراء بلا نهاية ، ويطبق كالخيط المبلول القاسي ، يشدّ دون توقف على الرقبة ، يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها ، ويظل هكذا موتاً مؤكّداً منتظراً ساخراً مؤجّلاً ، فيحس الانسان يالاختناق ، وتتصاعد ضربات القلب ، وترتفع درجات الحرارة ، ويتحوّل لون الوجه إلى الزرقة ، ولا يستطيع الواحد ان ينظر الى الآخر خوف الانفجار او العويل .<br />والحراة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير . فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلة متناهية ، ويتضاعف رعبه مئات المرات .<br /><br />والانسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شئ ، حتى على الموت ، فإنه يريده صاعقاً كاملاً نهائياً ، اما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شئ ، الدمار الذى يفتت الخلايا بقسوة تشبه النهش ، فإن هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل ، وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقف او الراحة .<br />هذا هو الانسان ، ذلك المخلوق الضئيل المتلاشى ، في مواجهة قوة غاشمة لا تدمره ولا تتركه .. - عبد الرحمن منيف




©gutesprueche.com

Data privacy

Imprint
Contact
Wir benutzen Cookies

Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.

OK Ich lehne Cookies ab