من هذه الأفكار الشائعة المستقرَّة التي يمكن أن نعيد طرحها فكرة التفرقة بين التفسير والتأويل، وهي تفرقة تُعْلي من شأن التفسير، وتَغُضُّ من قيمة التأويل على أساس من موضوعية الأول وذاتية الثاني.

الموضوعية في الحالة الأولى موضوعية تاريخية تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله. ومثل هذا التصوُّر يقع في تناقض منطقي من الوجهة الدينية الاعتقادية التي ينطلق منها أصحابه؛ إذ النص عندهم صالح لكل زمان ومكان لأنه يحتوي كل الحقائق ويُعَدّ جماعاً للمعرفة التامة. ومثل هذا الاعتقاد يتناقض تماماً مع القول بضرورة اعتماد المفسِّر على المأثورات المرويَّة عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف عند فهمهم وتفسيرهم للنص.

ولكي يحلّ أصحاب هذا التصور مثل هذا التعارض المنطقي، ذهبوا إلى أن المعرفة الدينية لا تتطور وأن جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة، فيما يتصل بالوحي ومعناه، وأن التَّمَسُّك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل والانحراف.

وهكذا انتهى بهم الأمر إلى عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية من جهة أخرى*.

وواقع الأمر أن الاعتماد على تفسير السلف من الصحابة والتابعين لا يخلو عند أصحاب هذا التصوُّر من موقف اختياري يعتمد على الترجيح بين الأراء. هذا الاختيار القائم على الترجيح يعكس بدور موقفاً تأويلياً نابعاً من موقف المفسِّر وهموم عصره وإطاره الفكري والثقافي، وكلها أمور لا يمكن لأي مفسِّر أن يتجنبها مهما ادَّعى الموضوعية والانعزال عن الواقع والحياة مرة أخرى في الماضي.

هذا إلى جانب أن استبدال لفظة بلفظة للشرح والتوضيح، أو التعبير عن المعنى بعبارات أخرى، يتضمن بالضرورة فهماً خاصاً يرتبط بتطور دلالة اللغة من عصر إلى عصر، كما يرتبط بالإطار المعرفي الذي تعكسه اللغة في تطورها التاريخي. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الألفاظ التي يُظَنُّ أنها مترادفة تعكس فروقاً دقيقة في دلالتها، أدركنا أن أي شرح لا بدَّ أن يتضمن نوعاً من التأويل.

ولا يبالغ الباحث إذا ذهب إلى أن تفسير الصحابة أنفسهم -خاصة ابن عباس الذي نُظِرَ إليه على أنه ترجمان القرآن- لا يتجاوز إطار التأويل، فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يَرُدُّ فيها على تأويلاتهم، بل يؤوِّل بعض آيات القرآن التي تهاجم المؤوّلة على أساس أن المقصود بها الخوارج**. ومما يؤكِّد ما نذهب إليه أن هذه التفرقة بين التفسير والتأويل تفرقة اصطلاحية متأخرة، فالطبري مثلاً يسمي تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) وابن عباس يرى أنه يعلم تأويل القرآن، وتؤكّد الروايات أن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) دعا لابن عباس فقال: (اللَّهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل)***.


(( هوامش))

(*) يُعَدُّ ابن تيميه وتلميذه ابن القيم من أكبر ممثلي هذا الاتجاه، انظر عن ابن تيميه: صبري المتولي: منهج ابن تيميه في تفسير القرآن الكريم/ 63-69 ، وانظر ابن القيم/ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطَّلة صفحات 5، 6، 13، 17، 20، 60-61، 83، 85 من الجزء الأول على سبيل المثال لا الحصر.

وانظر من الباحثين المحدثين الذين يتبنون هذا الموقف:

محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1 / 284-285 . وسنتعرض فيما يلي لموقف الباحثين في إطار هذه النظرة من تأويل ابن عربي للقرآن

(**) انظر: الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6 / 198، والسيوطي: الإتقان في علو مالقرآن 1 / 142

(***) انظر في معنى التفسير والتأويل: السيوطي: الإتقان 2 /173

Auteur: نصر حامد أبو زيد

من هذه الأفكار الشائعة المستقرَّة التي يمكن أن نعيد طرحها فكرة التفرقة بين التفسير والتأويل، وهي تفرقة تُعْلي من شأن التفسير، وتَغُضُّ من قيمة التأويل على أساس من موضوعية الأول وذاتية الثاني.<br /><br />الموضوعية في الحالة الأولى موضوعية تاريخية تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله. ومثل هذا التصوُّر يقع في تناقض منطقي من الوجهة الدينية الاعتقادية التي ينطلق منها أصحابه؛ إذ النص عندهم صالح لكل زمان ومكان لأنه يحتوي كل الحقائق ويُعَدّ جماعاً للمعرفة التامة. ومثل هذا الاعتقاد يتناقض تماماً مع القول بضرورة اعتماد المفسِّر على المأثورات المرويَّة عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف عند فهمهم وتفسيرهم للنص.<br /><br />ولكي يحلّ أصحاب هذا التصور مثل هذا التعارض المنطقي، ذهبوا إلى أن المعرفة الدينية لا تتطور وأن جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة، فيما يتصل بالوحي ومعناه، وأن التَّمَسُّك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل والانحراف.<br /><br />وهكذا انتهى بهم الأمر إلى عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية من جهة أخرى*.<br /><br />وواقع الأمر أن الاعتماد على تفسير السلف من الصحابة والتابعين لا يخلو عند أصحاب هذا التصوُّر من موقف اختياري يعتمد على الترجيح بين الأراء. هذا الاختيار القائم على الترجيح يعكس بدور موقفاً تأويلياً نابعاً من موقف المفسِّر وهموم عصره وإطاره الفكري والثقافي، وكلها أمور لا يمكن لأي مفسِّر أن يتجنبها مهما ادَّعى الموضوعية والانعزال عن الواقع والحياة مرة أخرى في الماضي.<br /><br />هذا إلى جانب أن استبدال لفظة بلفظة للشرح والتوضيح، أو التعبير عن المعنى بعبارات أخرى، يتضمن بالضرورة فهماً خاصاً يرتبط بتطور دلالة اللغة من عصر إلى عصر، كما يرتبط بالإطار المعرفي الذي تعكسه اللغة في تطورها التاريخي. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الألفاظ التي يُظَنُّ أنها مترادفة تعكس فروقاً دقيقة في دلالتها، أدركنا أن أي شرح لا بدَّ أن يتضمن نوعاً من التأويل.<br /><br />ولا يبالغ الباحث إذا ذهب إلى أن تفسير الصحابة أنفسهم -خاصة ابن عباس الذي نُظِرَ إليه على أنه ترجمان القرآن- لا يتجاوز إطار التأويل، فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يَرُدُّ فيها على تأويلاتهم، بل يؤوِّل بعض آيات القرآن التي تهاجم المؤوّلة على أساس أن المقصود بها الخوارج**. ومما يؤكِّد ما نذهب إليه أن هذه التفرقة بين التفسير والتأويل تفرقة اصطلاحية متأخرة، فالطبري مثلاً يسمي تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) وابن عباس يرى أنه يعلم تأويل القرآن، وتؤكّد الروايات أن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) دعا لابن عباس فقال: (اللَّهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل)***.<br /><br /><br />(( هوامش)) <br /><br />(*) يُعَدُّ ابن تيميه وتلميذه ابن القيم من أكبر ممثلي هذا الاتجاه، انظر عن ابن تيميه: صبري المتولي: منهج ابن تيميه في تفسير القرآن الكريم/ 63-69 ، وانظر ابن القيم/ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطَّلة صفحات 5، 6، 13، 17، 20، 60-61، 83، 85 من الجزء الأول على سبيل المثال لا الحصر.<br /><br />وانظر من الباحثين المحدثين الذين يتبنون هذا الموقف:<br /><br />محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1 / 284-285 . وسنتعرض فيما يلي لموقف الباحثين في إطار هذه النظرة من تأويل ابن عربي للقرآن<br /><br />(**) انظر: الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6 / 198، والسيوطي: الإتقان في علو مالقرآن 1 / 142<br /><br />(***) انظر في معنى التفسير والتأويل: السيوطي: الإتقان 2 /173 - نصر حامد أبو زيد




©gutesprueche.com

Data privacy

Imprint
Contact
Wir benutzen Cookies

Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.

OK Ich lehne Cookies ab