إن العقل للإيمان كالبصر للسائر، هيهات أن يرشد سيره إذا فقده.
محمد الغزاليوقد أسفت ـ كما أسف غيرى ـ لصنفين من الناس:
* صنف تلمس فى قلبه عاطفة حارة، ورغبة فى الله عميقة، وحبا لرسوله باديا، ومع ذلك تجده ضعيف البصر بأحكام الكتاب والسنة، يعلم منها قليلا ويجهل منها كثيرا، ويغريه بالتعصب للقليل الذى يعلمه أنه يأنس من نفسه صدق الوجهة، وقوة محبة لله ورسوله ربما افتقدها فى غيره فلم يشعر بها.
* وصنف تلمس فى عقله ذكاء، وفى علمه سعة، وفى قوله بلاغة، يعرف الصواب فى أغلب الأحكام الشرعية، ويؤدى العبادات المطلوبة منه أداء لا بأس به، ولكنه بارد الأنفاس، بادى الجفوة، غليظ القلب، يكاد يتمنى العثار لغيره، كى يندد بأغلاطه، ويستعلى هو بما أوتى من إدراك للحق، وبصر بمواضعه من كتاب وسنة.
عرفت الصنفين معا فى تجاربى مع الناس.
فكان يغيظنى من أصحاب العاطفة، ما يغلب عليهم من جهل وما يشين غيرتهم من عكوف على الخرافات، وعجز عن استيعاب الأحكام التى استعلنت فى دين الله أدلتها، واكتفاؤهم بحب سلبى طائش.
وكان يغيظنى من الآخرين استكبارهم لما هدوا إليه من صواب فى بعض الأحكام العقيدية والفقهية، واستهانتهم بآفات القلوب وفراغهم من حرارة الإقبال على الله، والحنو على عباده.
لماذا تؤلف فى الوضوء مثلا كتب كبيرة لها طابع علمى محدد؟ ولا نؤلف هذه الكتب العلمية فى الإخلاص، والتوكل، والتقوى، والأمانة والصبر والحب... الخ.
إن محبة الله جل جلاله، والإخلاص له، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والصبر فيه ـ معان تعد فى الطليعة من شعب الإيمان، أو هى من أركانه الركينة.
وتحرير هذه المعانى وفق تفاسير مضبوطة، وشروح مستفيضة ـ خدمة جلى للإسلام وأكاد أقول : إن الأعمال الظاهرة من عبادة ومعاملة ما تصدق وتكمل إلاإذا اتسقت وراءها هذه المعاني الباطنة ، وتخللت مسالك الفؤاد ولذلك يجب أن تطرق موضوعاتها بكثرة ودقة وميدان التربية الإسلامية في هذا العصر أحوج ما يكون إلى هذه الداسات ؛
على أن الأخطاء فى ثقافتنا التقليدية ليست حكرا على كتب التصوف ـ وان نالت هذه الكتب نصيبا جللا منها ـ فإن الأخطاء تطرقت إلى كتب التفسير والفقه والسيرة، واندس فى صحائفها ما يؤذى الله ورسوله، وما اجتهد الأئمة فى التحذير منه.
وكشف القناع عن دخله وغشه.
التعاليم المدنية تزحف من كل فج، وتقتحم طريقها إلى النفوس من مسارب لا حصر لها.
وإذا لم نحسن البناء الداخلى للنفوس ورفع الإيمان على دعائمه الفكرية والعاطفية كلها، فإن الأجيال الناشئة لن تنجو من آثار هذا الزحف، وربما شعرت بنقص فى كيانها الروحى تسعى كى تستكمله من جهات أخرى، وهذا باب لو انفتح هبت منه شرور جائحة.
إن الله جل شأنه جعل الصراط المستقيم هو المعبر الفذ لمن يبتغيه.
وكل تقصير، أو قصور فى فهم هذا المنهج، واستبانة مراحله ـ لا يدل على خير.
وكل عوض يشتغل المرء به عن المعالم التى وضعها الله لا يزيد صاحبه إلا خبالا.
وأى عاطفة لا يصحبها تفصيل صحيح لأصول الإسلام وفروعه، وعمل تام بها فليس لها عند الله وزن.
وصدق العاطفة ليس عذزا للخلط العلمى، ولا للقول فى دين الله بالهوى والرأى، فإن للإسلام ينابيع معروفة محصورة تؤخذ أحكامه منها وحدها، ولا يؤذن لبشر بالتزيد عليها أو الانتقاص منها.
وعجيب أن نقع بين صنفين متناقضين: صنف يفسر بقواعد اللغة والبلاغة، ولفت النظر إلى بعض الأحكام القريبة الظاهرة ثم يقف.
وصنف آخر يهدم القواعد ويتجاهل الحدود ويهجم على القرآن بمعان مبتوتة الصلة به لأنها فى نظره ترقق القلب، وترهف الوجدان، وتنقل الناس إلى الله.
إن غول الاستبداد السياسى استهلك شعوبنا من أمد بعيد،
ولم نسمع لهؤلاء نواحا على حرية موءودة،
ولا بكاء على شورى مفقودة،
إن صمتهم حيث يجب الصياح وصياحهم حيث يجب الصمت يجعلنى أزهد فى رؤيتهم والاستماع إليهم ويجعلنى أدعو الله أن يريح الإسلام من علومهم ودعاواهم...
ألا فليعلم الناس أن الدين عقل مؤمن، وثقافة محكمة وليست احتفاء بالصغائر، وتجسيما للأوهام
محمد الغزاليالإيمان إذا صح لابد أن ينتج العمل.
والعمل إذا صح لابد أن يرتكز على الإيمان.
والإحسان إذا صح لا ينشأ إلا من إيمان راسخ وعمل كامل.
« erste vorherige
Seite 41 von 157.
nächste letzte »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.