إنه لا مفرّ من وضع خط فاصل بين اتخاذ اللغة مجرد أداة لاكتساب الثقافة و المعرفة و بين اتخاذها وسيلةً - لا وسيلة غيرُها - للخلق و الإبداع. إن اللغة هنا و هناك وسيلة، لكنها في الحال الأولى رموز و اصطلاحات قاموسية لا حرارة فيها و لا إبداع، بينما هي في الحال الثانية تتخطى الرموز و الحروف، و تعلو فوق المصطلحات و ألفاظ المعْجمات، لتنفح الحياة بروح الأدب أو تنفح الأدب بروح الحياة.
صبحي الصالحTags: اللغة-از
و أتيح لأتباع التابعين أن يسمعوا فتاوى المفتين من الصحابة و التابعين، فهيأ ذلك الفرصة لهم ليدلوا ببعض آرائهم اجتهاداً و استنباطاً، ولا سيما في القضاء و الفتوى. ثم كان من العوامل التي أعانت القوم على تكوين المذاهب الفقهية تدوين القرآن و السنة، و جمع فقه الصحابة و فتاواهم في الواقع، و تصنيف طائفة غير قليلة من العلوم التي تقوٍّي ملكات الاجتهاد و الاستنباط و القياس، كعلوم اللغة العربية، و تفسير القرآن، و أدب المناظرة، و علم الكلام. و زاد من ذلك كله تشجيع الخلفاء للحركة الفقهية، و عنايتهم بمجالس البحث و النظر، و رغبة الكثيرين منهم في الجدل العلمي الدقيق.
نتيجة لتلك العوامل نشأت المذاهب الفقهية، و كان منها المذاهب الفردية التي انقرضت و لم يكتب لها البقاء، و المذاهب الجماعية التي كونت مدارس و وضعت مناهج للبحث التشريعي في ضوء مصادر التشريع.
الإجماع هو المصدر النقلي التبعي الثالث من مصادر التشريع الإسلامي. و لعل أفضل تعريف له هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد، بعد وفاته، في عصر من العصور، على حكم شرعي.
[....]
و لئن قيّد اتفاق المجتهدين في التعريف بما وقع في (عصر من العصور) فقد قصد بهذا التقييد من وجد في كل عصر من أهل الاجتهاد الذين يتصور منهم الاتفاق أو الاختلاف، إذا ما نوقشت مسألة من المسائل. و ليس المراد، بطبيعة الحال، جميع المجتهدين في جميع العصور حتى يبدل اله الأرض غير الأرض و السماوات، فلو اشترط ذلك لكان محيلاً لتحقيق الإجماع.
[...]
و جدير بالذكر أن ما انتصب من الأدلة على كون الإجماع حجةً من صريح الكتاب و السنة لا يجوز أن يفرّق بين عصر و آخر. و ليس مردّ هذا الحكم ما نبهنا عليه في التعريف من وقوع الاتفاق بعد وفاة النبي، و إنما مردّه ما قد يُتوهم من أن هذا الإجماع ينبغي أن يحصر في عصر الصحابة، لأن في الإجماع ضرباً من (التوقيف). و إنما شهد ذلك (التوقيفَ) صحابةُ الرسول، و لا سيما بعد أن أشاد الرسول بصحابته و قال: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم).
و الحق أن الصحابة الذين شهدوا (التوقيف) قد نقلوه، أو نقله معظمهم، إلى من بعدهم، فكان أتباعهم في حكم الحاضرين المشاهدين. و على ذلك، يعتبر حجةً إجماع المجتهدين في أي عصر، و لا يختص هذا الحكم بعصر الصحابة.
Tags: الإجماع-في-عصر-من-العصور
على أن المشهور، في الإجماع: أنه حجة قطعية، بحيث يكفَّر مخالفُه أو يُضلّل أو يُبدَّع، و إن كان إطلاق القول بهذا الأسلوب المتشدد يخالف روح الإسلام السمح في معالجة القضايا بوجه عام، و إلى ذلك انتبه إمام الحرمين حين قال: (فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفّر، و هو باطل قطعاً، فإن منكر أصل الإجماع لا يكفّر، و القول بالتكفير و التبرّي ليس بالهيّن). و نحن نأخذ بهذا الرأي السديد، و إن كنا لا نغُضّ، و لا نريد قطّ أن نغضّ من قيمة الإجماع بين مصادر التشريع في الإسلام.
و لقد صدق الشافعية حين لاحظوا بوجه عام أن الإجماع صيغة تعليمية حية تقدمية، و لقد أحسن المصلحون المعاصرون صنعاً حين نظروا هذه النظرة نفسها إلى الإجماع. و لئن كان المجمعون - في أي عصر من العصور - يمثلّلون شعْب المؤمنين، فإنهم - من غير أن ينطلقوا من كونهم هيئةً كهنوتية منظمة - إنما يمثلون شرع الله، و لا حاجة بهم و لا لغيرهم، و لا يحقّ لهم و لا لغيرهم - أن يمثّلوا الله ذاته، تعالى الله و تقدّس عن كل تمثيل!
و من الحوادث الجزئية التي قد يستأنس بها أيضاً على حجية القياس أن جارية قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم: إن أبي أدركته فريضة الحج، و هو شيخ زَمٍنً لا يستطيع أن يحج، فإن حججتُ عنه أنيفعه ذلك، فأجابها عليه السلام: (أرأيت لو كان على أبيك دينُ فقضيته عنه أكان ينفعه ذلك؟ (قالت: نعم، فقال: (فدَيْنُ الله أحقّ بالقضاء).
أما أقوال الصحابة و أفعالهم المؤيدة لصحة العمل بالقياس فمن أهمها أن المسلمين قاسوا خلافة أبي بكر على إمامة الناس في الصلاة، و قاسوا قتال مانعي الزكاة على تاركي الصلاة.
Tags: القياس-مصدر-للتشريع-الإسلامي
و تتعلق بالقياس ضروب من العمل الاجتهادي العقلي كالاستحسان و الاستصلاح و سد الذرائع أخذ بها بعض الفقهاء و تشدد فيها آخرون.
أما الاستحسان فهو العدول عن قياس وضحتْ علته إلى قياس خفيتْ علته، و لا بد فيه من موجب للعدول عن حكم المسألة لدليل شرعي خاص، لأن الاستحسان في مؤدّاه الأخير هو العمل بأقوى الدليلين. و استدل أنصار الاستحسان بقوله تعالى: (اتبعوا أحسن ما أنزلً إليكم من ربكم). و نسبوا إلى الرسول حديثاً يقول فيه: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن). على أن الشافعي يرفض الاستحسان و يقول قوله الحاسم: (من استحسن فقد شرع).
و أما الاستصلاح فهو الحكم في مسألة لا حكم فيها لمصلحة يهتدي إليها المحتهد برأيه، كاشتراط سن معينة للزوجين توثيقاً لعقد الزواج بينهما. و يشترط فيه أن يكون أخذاً بمصلحة حقيقية عامة، و ألا يتعارض مع حكم ثابت بنص أو إجماع.
و أما الذرائع فهي جمع الذريعة: الوسيلة إلى الشيء، و أصلها أن الوسيلة تعطى حكم الغاية إذا تعينت طريقاً إليها، لأن موارد الأحكام قسمان: مقاصد أساسية و وسائل مفضية إليها، و لم يكن بدّ من أن يأخذ الفقهاء بأصل الذرائع حين وجدوا أن الوسائل تأخذ أحياناً حكم الغايات.
Tags: القياس-التشريع-الاجتهادي
مختارات من المبادئ الأساسية للفقه الإسلامي
اليقين لا يزول إلا بالشك:
المراد أن ما كان ثابتاً و متيقناً في الأصل لا يزول بالشك العارض ، لأن ما ثبت لا يزول إلا بيقين.
الأصل في الكلام الحقيقة:
من المعلوم أن الحقيقة هي استعمال اللفظ في المعنى الذي وضع له. و الأصل في الفقه أن نحمل اللفظ على معناه الحقيقي ما أمكن حمله عليه.
المشقة تجلب التيسير:
المقصود أن الصعوبة تصير سبباً في التسهيل و التيسير، فينشأ عنها التوسع و التسامح في وقت الضيق.
لا مسوغ للاجتهاد في مورد النص:
المراد أنه لا مجال بحال من الأحوال لاستفراغ الجهد في قضية شرعية ورد حولها نص صريح.
لا ضرر و لا ضرار:
هذا نص حديث شريف أخرجه الإمام مالك في الموطأ، و معناه أنه ليس للرجل أن يبادئ أخاه بالضرر و لا أن يقابله به عقوبة له.
الضرورات تبيح المحظورات:
الضرورات هي الظروف التي تلجئ الإنسان إلى الأخذ بأمور معينة، و المحظورات هي المحرّمات الممنوعات: و يتفرع على ذلك أكل الميتة عند الجوع.
الضرورات تقدر بقدرها:
المراد ألا يجاوز الواقع في حال الضرورة القدر الأساسي الذي لا مفر منه، كما قال تعالى: (فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه). و يتفرع على هذه القاعدة أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا مقدار ما يسد رمقه.
درء المفاسد أولى من جلب المصالح:
المراد أنه إذا تعارضت مفسدة و مصلحة قُدّم دفع المفسدة على جلب المصلحة غالباً، لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات. و لذلك قال عليه السلام: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، و إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم.)
العادة محكّمة:
يعني أن العادة سواء أكانت عامة أو خاصة يمكن أن تتخذ بينة يبنى عليها إثبات حكم شرعي.
لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان:
المراد بهذه القاعدة أن المسائل التي تبنى على العادات و الأعراف تتبدل بتبدل الأجيال و الأعصار.
التصرف على الرعية منوط بالمصلحة:
في هذه القاعدة تحديد لوظيفة الحاكم الذي لا يحق له أن يتصرف في رعيته إلا بما ينسجم و المصلحة العامة.
إعمال الكلام أولى من إهماله:
المراد بهذا أن الكلام لا يهمل ما دام في وسعنا أن نحمله على مدلول معين.
إذا تعذر إعمال الكلام يهمل:
المراد أن الكلام إذا لم يمكن حمله على معنى حقيقي أو مجازي فمن الطبيعي إهماله و إغفاله كأنه لم يكن. صبحي الصالح
تلك تجربة مرّ بها الأديب اللبناني أمين الريحاني ((الذي هجر بلاده، و هو في العاشرة من سنه، و سبقت لغة شكسبير لغةَ أبي العلاء إلى لسانه و قلمه)، ثم وقع في صراع بين اللغتين، و إذا هو يعبّر عن حيرته بقوله: (فإن كانت الإنكليزية في دمي، فلغة سيبويه في عظامي)، لكنه سرعان ما ثاب إلى أمومة العربية لما تذكّر لبنان العربي، و أنشأ يقول: (أحب لغتي و وطني لأنني أحب نفسي. و قد يحملني هذا الحب على الغلوّ أحياناً)، إلى أن يقول مخاطباً الأم اللبنانية: (علّمي أبناءك محبة الوطن الحقة. قولي لهم: إن الأجنبي لا يحترمهم إذا كانوا لا يحترمون أنفسهم. قولي لهم: إن الأجنبي لا يحتقر لغة أجداده، بل يحتقر في قلبه من يحتقرون لغة الأجداد. قولي لهم: إن اللسان العربي لسانُهم، و إن اللة العربية لمن أشرف لغات الأرض، فليتعلّموها، و لْيُتْقنوها، و لْيعزّزوها.)
إن الانتهاء إلى هذه الغاية الحقيقة الفعلية، بالدعوة الصريحة إلى تعزيز العربية، من قٍبَل من يظنّ فيهم - أو كان يُظنّ ببعضهم الذهاب إلى تعدّد لغة الأم، لهو أبلغ برهان على أننا نرفض الاعتقاد بأنّ لنا بين قومنا أكثر من لغة واحدة هي العربية بالذات، و نُجمع على اعتبار كل لغة أجنبية، أخرى (أي لغة تكون) مجرّد أداة تثقيفية لتعميق جذور ثقافتنا، غيرَ منغلقين على أنفسنا
Tags: العربية-لغة-الأجداد-الهوية
إن العودة باللغة المتكاملة النامية المتطورة الشاملة إلى لُغَيَّة محدودة، أو إلى بقايا تلك اللّغيّة لمجرد أنها محكية أو عفوية، لا يَرْقى بلساننا إلى الذوق الجماعي الذي يعبّر عن أدق الفكر كما يَفْرض أعذب الشعر، و الذي يواكب الحضارة التكنولوجية الحديثة مثلما ينظم الأزجال، و يجنّح الخيال، و يسبح مع عروس البحر!!
صبحي الصالحهل اللغة المحكية أقدر على نقل مصطلحات العلو مو الفنون من الفصحى التي مرّت في شؤون النقل و الترجمة بأضخم التجارب، و ما تزال تمرّ اليوم بالتجارب الضخام؟ إنْ تكن المحكيّة أقدرَ في هذا قعلاً من الفصحى فلن نختار لنا لغةً وطنية سواها، لأن شعوب العالم الحديث عندما تحوّلت إلى لغة وطنية جديدة، أو تبدو كالجديدة، لم تكتف بمثل مبادرة دانتي الذي حصر وظيفة اللسان - إذا كان شاعراً لا عالماً - بالهيام في أودية الشعر و الخيال، بل انطلقت تسابق الزمان، و تكاذ تعصف عصفاً بالمحال، إلى اللغة أو اللهجة أو اللهجات المتداولة التي ألْفَتْها أكثرَ مرانةً و طواعية، و أقدرَ على مواطبة الحضارة في عصر العلم، عصر الإلكترون و الفضاء!
لا بدّ لنا أن نرى مع أكابر اللغويين أنّ انتشار اللغة - أي لغة كانت - رهنٌ بمدى إسهامها في الواقع الحضاري، و أن كل تخلّف توصم به لغتنا مثلاً ينحصر في الباحثين العرب لا في اللغة العربية.
Tags: اللغة-العربية
Page 1 of 3.
next last »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.