المعرفة العربية السائدة معرفة غير نقدية ، ذلك أنها نشأت وتنشأ في أحضان الجواب . ومن هنا كان طابعها الغالب فقهياً - شرعياً ، حتى في الآداب والفنون . وفي هذا ما يوضح كيف أن الثقافة العربية المهيمنة تمارس النقد بصورة غير نقدية ، والفكر والفلسفة بصورة غير فكرية وغير فلسفية ، والعلم بصورة غير علمية ، والشعر والفنّ بطرق غير شعرية وغير فنّية .
الثقافة العربية المهيمنة مجموعة من المؤسسات الاجتماعية - الأخلاقية - السياسية . إنها ثقافة بلا ثقافة .
أن يفرض معنىً وحيدٌ واحد يعني افتراضاً لنهاية العقل والمعرفة . هل يمكن أن نتصور يوماً تكون فيه المعرفة مكتملة بحيث تنتفي الحاجة إليها ؟ أو يوماً لا تنشأ فيه مشكلات جديدة لم تعرف سابقاً ؟ هل يمكن أن نفترض يوماً لا يعود الإنسان فيه محتاجاً إلى أن يطرح أي سؤال ؟
المعنى الوحيد ، المسَّبق ، يجيب : نعم .
المكفرون يدمرون باسم النص الديني ما أعطاه الخالق للإنسان تمييزا له عن سائر المخلوقات: العقل، والحرية، والإرادة. ويمكن أن يقال، انطلاقا من ذلك، إن الذين يكفرون الآخرين يعطون لأنفسهم حقوقا لم يعطها الخالق لمرسليه وأنبيائه: (إنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء). فإذا كان الأنبياء لا يقدرون أن يهدوا فبأي قوة أو حق يعطي الإنسان لنفسه الحق بهداية غيره؟ وبالأحرى الحق بتكفيره؟
أدونيسإن الموحدين نقلوا مبدأ الإله الواحد من السماء إلى الأرض، وترجموه إلى مبدأ آخر - مبدأ الحاكم الواحد. وبذلك تفوقوا في ابتكار الطغيان ووسائله.
أدونيسوحدة الجماعة ، وحدة النص ، وحدة الحقيقة ، وحدة السلطة : تلك هي الأسس التي تقوم عليها بنية الفكر العربي السائد . وينبغي هنا أن نشير إلى أن الخلل الأساس في المحاولات التي نشأت زاعمة أن غايتها هي تحرير الإنسان العربي والعقل العربي من هذه البنية السائدة ، كامن في أنها أحلت نصاً محل نص ، وأن لنصها هو ، كذلك ، خصائص المطلق ، شبه المقدس . فالعربي ، اليوم ، كيفما فكّر ، يواجه نصاً - مرجعاً ، هو المعيار والحكم : سواء في ما يتصل بالغيب ، أو يتصل بالإنسان والعالم . وهكذا يعيش ويتحرك بين نصين - مرجعين : لاهوتي - ديني ، وزمني - ايديولوجي .
أدونيسالكتابة ، بالنسبة إليّ هي هذا البحث السري الغامض من أجل أن نقول ما ننتظره . وقراءة هذه الكتابة هي كذلك بحث سري ، لا يُدرك من هذا الذي ننتظره إلا الشبح .
كأننا ، كتاباً وقرّاء ، نبحث في النص الفني عما لا يمكن أن نجده ، أو كأننا نريد أن نبلغ ما لا يمكن بلوغه .
كل شيء ممكن ، لكن لاشيء ممكن : أليس هذا مأزق الكتابة ؟
أدونيسالكتابة العربية المعاصرة هي ، في معضمها ، نوع من البحث عن زمن ضائع ، بشكل أو آخر : في الماضي فيستعاد أو في الحاضر فيقبض عليه ، أو في المستقبل فيُنتظر مجيئه .
هذا وجه من وجوه نقصها .
كلا ، - لا البحث عن زمن ضائع ، بل نبش المطموس ، المكبوت ، المهمَّش ، المنسيّ لافي الجماعة وحدها ، لافي التاريخ وحده ، وإنما في الذات أيضاً .
نبشُهُ ، واستنطاقه : بهذا نواجه الحرية ، ومسؤلية الحرية . وفي ضوء هذه المواجه ، تكمن رؤية طريق ما ...
أما الفجوة القائمة بين القارئ العربي والشعر ، اليوم ( الشعر بمعناه الشعريّ ) فقد يفسرها أنّ هذا الشعر يفتح أفق السؤال أمام قاريء مغترب على جميع المستويات ويتطلع ، بفعل اغترابه هذا ، إلى أفق الأجوبة - توهماً منه أنه سيتجاوز بهذه الأجوبة اغترابه
أدونيسماذا تفعل حين تعيش في ثقافة لاتقدر ، بطبيعة ذاتها ، أن ترى إلى المستقبل إلا بعين الماضي ، ولا تقدر أن ترى فيه أكثر من كونه مجالاً لتجلي الماضي ، ببهائه اللانهائي ، بحيث لا يكون الزمن المقبل كله إلا مناسبة لتحيين ما مضى ؟
أدونيس« first previous
Page 4 of 11.
next last »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.