إن ذاك التدين "العاقل الهاديء" - كما يصفه الدكتور فؤاد زكريا - من صنع الاستعمار الثقافي، ولم يكون يوما تدين المسلمين ولا تدين المصريين خلال ثلاثة عشر قرنا، أي قبل دخول الاستعمار إلى ديارنا.
يوسف القرضاويإن الدين لا يؤدي رسالته في البعث والإحياء والتعبئة إلا إذا كان هدفا لا وسيلة، وكان دما يجري في عروق الحياة كلها لا شيئا على هامش الحياة. إنما يؤثر الدين في الشعوب ويغير من حياتها وسلوكها إذا كانت كلمته هي العليا في التشريع والتوجيه والتعليم والتثقيف، بحيث يصبغ الحياة بصبغته، فينطلق الناس تحت لوائه عاملين مخلصين وفي الخيرات مسارعين. وإن الشعوب بحاستها الفطرية لا تستجيب لمن يجندها باسم الدين إلا إذا لمست فيه الولاء لدين الله وأحست بحرارة الإخلاص له والحرص على تطبيق شرائعه وتعظيم شعائره والدخول فيه كافة كما أمر الله، وإلا أعرضت عنه وكشفت خداعه ونفاقه وقالت في قوة وجلاء: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟
يوسف القرضاويإن طبيعة الإسلام أن يكون قائدا لا مقودا، وسيدا لا مسودا، لأنه كلمة الله، وكلمة الله هي العليا، ولهذا فهو يعلو ولا يُعلى. والعلمانية تريد من الإسلام أن يكون تابعا لها، يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها، لا أن يأخذ موقعه الطبيعي والمنطقي التاريخي آمرا ناهيا حاكما هاديا. إنها تباركه وترضى عنه إذا بقى محصورا في الموالد والمآتم، في دنيا الدراويش والمجاذيب، في عالم الخرافة والأساطير. أما أن يتحرك ويُحرك ويوجه الشباب ويقود الجماهير ويفجر الطاقات ويضيء العقول ويلهب المشاعر ويصنع الأبطال ويربي الرجال ويضبط مسيرة المجتمع بالحق ويقيم بين الناس الموازين القسط ويوجه التشريع والثقافة والتربية والإعلام ويُعلِّم الناس أن يدعوا إلى الخير ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويقاوموا الفساد والانحراف، فهذا ما لا ترضى عنه العلمانية بحال. تريد العلمانية من الإسلام أن يقنع بركن أو زاوية له في بعض جوانب الحياة، لا يتجاوزها ولا يتعداها، وهذا تفضل منها عليه، لأن الأصل أن تكون الحياة كلها لها بلا مزاحم أو شريك! فعلى الإسلام أن يقنع "بالحديث الديني" في الإذاعة أو التلفاز و"بالصفحة الدينية" في الصحيفة يوم الجمعة و"بحصة التربية الدينية" في برامج التعليم العام و"بقانون الأحوال الشخصية" في قوانين الدولة و"بالمسجد" في مؤسسات المجتمع و"بوزارة الأوقاف" في أجهزة الحكومة!
يوسف القرضاويفلماذا نقبل قوانين الله الكونية ولا نقبل قوانينه الشرعية؟! لماذا نقبل سنن الله في خلقه ونرفض سننه في أمره، وهو في كلا الحالتين: العليم الذي لا يجهل والحكيم الذي لا يعبث والحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؟!
يوسف القرضاويونستطيع أن نحدد مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول: إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب. الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعملية.
يوسف القرضاوييجب إخضاع الواقع للإسلام، لا إخضاع الإسلام للواقع.
يوسف القرضاويدخل على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابنه المؤمن التقي عبد الملك، وقال له في حماس متوقد: يا أبت ما لك تبطيء في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو غلبت بي وبك القدور في سبيل الله! فقال الأب الحكيم: يا بني إن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة!
يوسف القرضاويالتدرج في تطبيق الشريعة ليس معناه تعطيل الحكم بالشريعة أو تعليقه إلى أجل غير مسمى، بل معناه وضع خطة محكمة ذات مراحل محددة للانتقال بالمجتمع من العلمانية إلى الإسلام، على أن تـُعطى الأولوية للجوانب التربوية والإعلامية والثقافية التي تعمل متضامنة متكاملة من أجل بناء الإنسان الذي ينشده الإسلام، وتهيئة المناخ اللازم لتطبيق سائر شرائع الإسلام بنجاح وتوفيق، وفي مقدمة ذلك إزالة الحواجز أمام الدعاة الصادقين للإسلام - أفرادا وجماعات - وتوفير ضمانات الحرية الضرورية لهم ليقوموا بواجبهم في الدعوة والتوعية والتربية والتكوين، وهذه من ألزم الأولويات. التدرج المطلوب هو الذي يضع نصب عينيه الهدف، ويحتال جاهدا للوصول إليه، فلا يمر يوم - كما أشار عمر بن عبد العزيز - إلا وهو يميت بدعة من بدع الجاهلية، ويحيي سنة من سنن الإسلام.
يوسف القرضاويإن من الظلم البين لحقائق التاريخ أن نطلق الحكم على جميع خلفاء بني أمية وبني العباس وآل عثمان وسلاطين المماليك في مصر والشام وملوك المرابطين والموحدين وغيرهم في المغرب وسلاطين المغول في الهند وغيرهم: بأنهم كانوا - جميعا - ظلمة وفجرة ومنحرفين عن عدل الإسلام ونهج الإسلام. فالواقع أن هذا ليس من الإنصاف في شيء، فقد كان من هؤلاء كثيرون اتصفوا بكثير من العدل والفضل وحسن السيرة، ولا سيما إذا قورنوا بغيرهم من حكام العالم في زمنهم. ولكننا كثيرا ما نأخذ أخبار تاريخنا من مصادر غير موثقة وروايات غير ثابتة، لو عمل فيها مبضع "الجرح والتعديل" لم تقم لها قائمة. فكيف وبعض مصادرنا كتب الأدب والأقاصيص مثل "الأغاني" للأصفهاني الذي سماه أحد إخواننا "النهر المسموم"؟! إنني أشبّه الذي يأخذ صورة الحكم أو المجتمع من كتاب مثل "الأغاني" بالذي يحكم على المجتمع المصري كله من خلال الأفلام السينمائية المصرية!
يوسف القرضاويفلا ينبغي التركيز - إذن - على عبقرية فرد موهوب تبعثه العناية الإلهية ليملأ الأرض عدلا كما مُلئت ظلما وجورا، أو يجدد للناس دينهم الذين انحرفوا عن صراطه فقها أو عملا. وقد كتبتُ بحثا ضافيا في حديث أبي داود الذي يرِد على كثير من الألسنة والأقلام: "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وهو حديث صحيح، ولكن معظم الشراح مالوا إلى أن "مَن" في قوله "مَن يجدد" للمفرد، وظلوا يبحثون لكل مائة سنة عن مفرد علم مشهور بعلمه وفضله ليكون هو مجدد القرن. والذي انتهيت إليه أن "مَن" تصلح للجمع كما تصلح للمفرد، بل هي في الحديث أولى أن يراد بها الجمع، فليس بالضرورة أن يكون المجدد فردا واحدا، بل قد يكون جماعة لها كيانها الواحد - أو قد تكون متفرقة في البلدان - كل واحد فيها قائم على ثغرة يحرسها، في ميادين الفكر أو العمل أو الدعوة أو التربية أو الجهاد أو غيرها. وبهذا يكون سؤال المسلم: ما دوري في حركة التجديد؟ بدل أن يكون كل همه أن يسأل: متى يظهر المجدد؟
يوسف القرضاوي« first previous
Page 3 of 7.
next last »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.