وعدت أقول لها: ولا حتى الحب؟! فأشارت إلى إصبعها.. إلى الخاتم الذي رأيته من اللحظة الأولى.. إنها صغيرة.. إنها لا تعرف أن الخاتم لا يدل على الحب.. ولا الحب يدل عليه الخاتم.. وأن الخاتم يشغل هذا المكان من الإصبع.. ولكن الحب يشغل كل شيء ولا يبدو كالخاتم.. ولا لامعا كالخاتم.. ولا خانقا كالخاتم!
أنيس منصوروإذا فتحت باب غرفتي فلن أسمع: صباح الخير يا حبيبي.. التي أجدها ضاحكة على وجه أمي.. تصور إنني أسمع هذه العبارة لمدة 30 سنة متوالية دون أن تتعب أمي في تكرارها.. صحيح أن الأم هي الإنسان الوحيد الذي لا يتعب من الحب.. انتهى كل هذا.. والآن بدأت المرحلة التي نشتري فيها الحب.. نهضت من الفراش وأنا لا أعرف بالضبط ماذا عساي أن أفعل، فهذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها أمام نفسي وجها لوجه.. وكنت أقول لنفسي: هل معقول أن تطلع الشمس في مثل هذا اليوم.. هل معقول أن تطلع الشمس غدا إذا فاتها أن تطلع اليوم.. وكنت أقول لنفسي: لا أعتقد ذلك.. هل معقول ألا يشعر أحد بهذه الكارثة التي حدثت لي
أنيس منصورعندما مات أبي، لم أجد ما أقوله.. لم أكتب.. لم أتلق العزاء.. ولا عاتبت أحدًا لأنه لم يمد لي يدًا يطلب السلوان لي والجنة لوالدي؛ فقد كان من الضروري أن أشعر بأن والدي قد غاب.. قد بعد عني.. كان يجب أن أناديه فإذا لم يرد أدركت أنه ليس هناك؛ وإذا عاودت النداء أيقنت أنني وأنه لسنا هنا؛ فبيننا مسافات في المكان والزمان.. ولم أكن في حاجةٍ إلى معجزة لكي أشعر بذلك .. فقد اقتربت منه وفتح عينيه وقال كلمة، ولما لم أجد ابتسامته الرقيقة أدركت أنه مات، فقد كان الابتسام مثل النقط فوق وتحت الحروف، فهو إذا قال ثلاث كلمات ابتسم خمس مرات.. وكان لابد أن أقنع عقلي وقلبي، وأن أعيد ترتيب حياتي كلها قبل أن أشيع في وجودي كله أنه قد مات.. ولذلك احتجت بعض الوقت لكي أرى أوضح وأسمع أعمق وأفكر أبعد لكي أسترجع الذي كان، فأجعله كأنه ما يزال حيًا أمامي.
أنيس منصورسؤال: أنت تضع الشاعر فوق الكون .. فوق الناس .. فوق المسئولية .. تراه ولا تتكلم .. نقبله كما هو أو نرفضه ..
جواب: أنا لم أضع الشاعر فوق .. وإنما هو موهبته .. خياله .. المادة التي يصنع منها خيالات وتخيلاته وتخييلاته .. وموسيقاه .. وهو لم يطلب أكثر من أن تسمعه .. وهو يدعوك إلى وليمة ضخمة فخمة .. ليس فيها طعام ولا شراب .. وإنما كلام جميل عن الطعام وأنغام بديعة عن الشراب .. وأن تسد فمك وتفتح عينيك .. وتنشر ريشك وتطير معه .. هذا كل ما يطلبه الشاعر
الشعراء يضيقون بالنقد ..
فالناقد رجل أمسك ترمومترا ومسطرة وراح يحسبها ويضربها ويطرحها، ولكن ما هكذا الشعر والشاعر، فأكثر إبداع الشاعر يجئ في حالة بين اليقظة والنوم - ولكن الناقد لا ينام
وأضع الترمومتر في فمي وأجده قد زحف إلى الأربعين .. وبدأت أحلم وأفكر في درجة حرارة عالية .. وتخيلت أناسًا لا أدري ما الذي جمعهم في هذه اللحظات العصيبة .. أرى وجهًا باسمًا .. وأرى عينين زرقاوين وأسمع صوتًا ناعمًا، وأعود برأسي إلى الوراء لأقول لها: وداعًا ..
ثم أعتدل في جلستي وأقول: لا وداع .. بل سأقاوم
!
قصة ابن لأم مريضة تعبت وشقيت حتى تعلّم ابنها وعمل
!
لا أقول هذه القصة ولا أحبها، وأرفضها فهي مليئة بالادعاءات .. فأولا: أتصور أنني كنت فقيرًا وأنا اليوم غني .. وهذا وهم ..
ثانيًا: كأنني أقول إنني كنت لا شيء ثم أصبحت شيئًا .. وهذا وهم ..
وثالثًا: كأنني أريد أن أقول إن المسافة بيني الآن وبين الماضي قد بعدت في الزمان وبعدت في المكان، وأنني لابد أن أذكرها حتى لا ينسى الناس ..
الناس؟، وهل هذا مما يعني الناس؟، إن أحدًا لا تعنيه هذه القصة ..
ثم هناك وهم آخر، هو أنني قطعت الطريق وحدي دون مساعدة من أحدٍ أو دون حظ؟
لا شيء قد تغير .. لا شيء .. فأنا مازلت فقير النفس .. متسول العقل .. مهلهل القلب .. وأنا وأفكاري وعواطفي على باب الله!
وكثير من الناس يسألني: يا أخي لماذا تفضح نفسك هكذا؟
وأندهش كيف أنني فضحت نفسي .. أنني لم أفضح نفسي ولا أحد، إنما أردت أن أعرف .. أن أكشف .. أن أنكشف .. أن أكتشف .. أن أكاشف .. هذا كل ما هناك .. عملاً بنصيحة أستاذنا العظيم سقراط: أعرف نفسك بنفسك
أي إنسان من الممكن أن يوجه له أي إتهام .. فقلما نجد إنسانًا يسير على شاطئ البحر مستمتعًا بهيبته وجماله، ثم لا يلقيه بحجر
!
إذا قررت وضع لافتة مكتوبة على قبري، فلن أكتب إلا هذه العبارة "عاش كذا سنة (الله أعلم) ولم ينم إلا ليلة واحدة"، ولن أزيد شيئًا على ذلك فلا قيمة لأي شيءٍ يكتب بعد وفاتي
أنيس منصور« ; premier précédent
Page 14 de 39.
suivant dernier » ;
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.