إنني أظن أن أفضل ما حصلت عليه في "كابادوكيا" هو إكباري لأعجوبة الإنسان وخلق الإنسان، ومن ثم الشكر والحمد لله العظيم خالق هذا الإنسان. فبقدر قسوة امتحان الإنسان في مواجهة الطبيعة الجبارة والزمان الأكثر جبروتاً من الطبيعة أودع الله في أشرف خلقه سراً عجيباً جعله يواجه وعيه بمصيره المتهافت والزائل بالانخراط في تغيير حياته الممكنة والتسامي بها روحاً ونشداناً للجمال.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


لقد ذهبتُ إلى بيت تشيخوف - وهو الذي يُعتبر أكثر الكُتاب الروس هدوءاً ووداعة - ولاحظتُ شيئا غريبا فاتتني ملاحظته في المرات السابقة: إن مكتبه كان يواجه الحائط! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة بذلك مزيداً من العزلة عن عنف العالم الصعب، وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها لحظات عصيبة.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


الذي أدريه الآن يقيناً، أن من يصعد إلى هذا المرتقى يوماً، لا يعود كما كان من قبل الارتقاء، ويظل يهفو أبداً إلى هذا الارتقاء، لهذا لم أعد أرى في جنون متسلقي قمم الجبال جنوناً، بل هي رغبة مطلقة في الانعتاق من شقاء العالم الأرضي وملامسة مطلق النقاء الذي لم يمسسه بشر أو لم يلوِّثْه بعد.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


إن عوام الناس عندما يجرمون قد يفلتون بجرائمهم في الدنيا ليُحاسَبوا عنها في الآخرة. أما قادة الشعوب عندما يجرمون - ولنتذكر مصائر نيرون وهتلر وموسوليني وسوموزا وغيرهم - فإنهم - وحساب الآخرة يترصدهم - لا يفلتون بجرائمهم في الدنيا أبدا سواء وهم أحياء أو بعد موتهم. وأقل وأمرّ صنوف العقاب هي اللعنة.. والمسخرة!

محمد المخزنجي


Aller à la citation


فالأفيال تنفخ في الماء "تروِّقه" قبل أن تأخذ جرعات بخرطومها، تسكبها في أفواهها بتمهل، والشرب لديها حفل كامل ترعاه الفيلة القائدة الأم التي يحيِّيها قبل الشرب كلُّ القطيع. والأسود عندما تشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر، إذ إن للافتراس وقتاً ونذراً وللحياة العادية وقت ونذر. ويبدو ان الغدر شيمة بشرية محضة !

محمد المخزنجي


Aller à la citation


هوِّن عليك، أو لا تهوِّن، فكل جمال في هذا البلد سيذكرك بنقيضه، وكل سلام سيجعلك تحس بالارتجاف. وهذا ليس قصداً، إنما هي آلية الذاكرة، فما تحمله ليس مما يُنسى، وخير ألا ينسى.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


كان الشلال يهدر بعنف, ومياهه تندفع من الحافة العالية لتهوي على صخور البازلت السوداء في باطن المجرى, على عمق مائة متر. ومن هذا السقوط المروع لآلاف الأطنان من المياه على الصخور الكبيرة الصلبة, كانت تتصاعد سحب كثيفة من رذاذ الماء المتكسّر على الصخور. وفي وسط العشب الغزير بالغابة المحيطة بالشلال فزع غزال وديع أزعجته الضوضاء, فقال ببعض الضيق: (ألا يمكنك أن تكون أهدأ أيها الشلال العظيم?), ودون أن يتريث لحظة, واصل الشلال اندفاعه وهديره ساخرا من رقة الغزال: (هه هه هاه... اسكت أيها المخلوق الهش, وامضغ عشبك في هدوء). لم يُخف الغزال ضيقه من عجرفة الشلال, وهمهم بصوت خافت: (حقا... ما دخل العنف في شيء إلا شانه, وما دخل الرفق في شيء إلا زانه). سمعت سلحفاة عجوز قول الغزال, وأحست أن به معنى جميلا, فسألته: (هلاّ شرحت لي مغزى ما قلته أيها الغزال?) وجاوبها الغزال مقربا فمه من رأسها, هامسا حتى لا يثير غضب الشلال الجامح: (إنه يعيرني بأنني هش وآكل العشب.. لكنه لا يدري أنه بعنفه يأكل نفسه). مدت السلحفاة رقبتها مطلة برأسها خارج الصدفة الكبيرة على ظهرها وهتفت غير مصدقة: (يأكل نفسه?!) تمطى الغزال رافعا رأسه مستنشقا عبير الغابة المنعش, وقال باطمئنان الواثق مما يعرف: (أكيد... إنه يأكل نفسه), ودون أن تسأله السلحفاة, بادر الغزال يشرح للسلحفاة: (هذه حقيقة... الشلالات العنيفة تأكل نفسها. فمياه الشلال وهي تسقط من الحافة العالية باندفاع, تنحت الحافة وتحفر فيها مجرى يزداد عمقا باستمرار, وعلى مر الزمن لا تجد المياه حافة عالية تسقط من فوقها على هيئة شلال, بل تسير في المجرى مشكلة نهرا صغيرا في قاع الجرف العميق). اندهشت السلحفاة من حديث الغزال, وأخذت تراقب الشلال كيف يجعله العنف يأكل نفسه, لم تستطع أن تتبين ذلك بوضوح خلال فترة عمرها الذي وصل إلى مائة سنة, لكنها كانت تخبر أبناءها, وهؤلاء يخبرون أبناءهم, لتمر آلاف السنين, ويتأكدون أن الشلال حقا - بعنفه واندفاعه - يأكل نفسه.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


فلتكتف إذن في البداية بالمشاهدة،برؤية لعبهم الغريب هذا، وتأمل شرودهم المرير.شرود وجوه لا عيون في محاجرها، لكنها تعطيك أشد الانطباع بتحديقها في زمن بعيد،زمن كانت لهم فيه عيون وأبصار.

محمد المخزنجي


Aller à la citation


طاغور السكندري
من أي بهاء تولد أغنياته؟

حين رأيته أول مرة أثار ارتباكي. فهو بالنسبة لي عملاق أسمر، يوحي بما يرتبط بالعماليق من عنفوان ومداهمة، ثم إنه صيدلي بالدراسة، مما يوحي أيضا بحدة العقل العلمي وحوافه القاطعة، لكنني ما إن جالسته حتى أحسست برفيف فراشة يَدُفُّ في المكان، وألق ملون يشع قريبا مني، ولم يكن هناك في المكان وبالقرب مني سوى هذا الصيدلي الشاب الأسمر العملاق، القادم من الإسكندرية العذبة، أحمد الديب، الذي تتناقض كنيته أيضا مع حقيقته الإنسانية والروحية والثقافية، مخلوق أبعد ما يكون عن بطش الافتراس، وإن كان شجاعا ونقيا في صدقه، وهو إلى كل ذلك بالغ الرقة، وكيان ثقافي مفعم بالجمال ومشع به، فهل لكل ذلك علاقة بكتابته؟

قطعا لذلك كله علاقة بكتابته، طبقا لقناعة أومن بها هي أن "حياة الكاتب هي أفضل تعليق على كتابته، وكتابته هي أفضل تعليق على حياته."، وما حياتنا إلا نتاج تكويننا الماثل في الأعماق، والمُتجلي في تفاعلاتنا مع العالم من حولنا، حياتنا، هذه هي حياتنا. ومخلوق مثل أحمد الديب من المنطقي جدا أن يتجلى بكتابة قوية ورقيقة وجميلة وصادقة حتما، بل استثنائية، فاجأتني بعد أن تعرفت عليها تباعا نَصا من بعد نَص، على مدى شهور طوال، ثم كانت المفاجأة وأنا أعيد قراءتها دفعة واحدة، فقد راحت تعبر بذاتها وبي إلى الامتحان الأهم لأي كتابة، وهي قدرتها على تجديد إدهاش قارئها كلما جدد قراءتها، وقد اندهشت، وأرجح أنني سأظل أندهش كلما عاودت قراءة هذه النصوص. فأي سر فيها؟

هذا السؤال أزعجني كثيرا وأنا أعيد قراءة هذه النصوص البديعة لأكتب كلمتين عنها، بل وعطلني طويلا عن هذه الكتابة، فكلما عاودت القراءة أجدني عازفا عن أن أخط كلمة، لسبب وضح لي مع الوقت، هو أنك عندما تصادف الجمال تحب أن تعيشه وتمتزج به، لا أن تحلل مكوناته لتصل إلى سر تركيبه، وهذه نصوص فائقة الجمال كلما عاودت قراءتها تغمرني النشوة، وأخرج من زحام وضوضاء العالم الفظ الذي يُثقلنا، خاصة في الفترة الأخيرة، وأحلق وأدور نشوان في فلك عالم من البهاء والنقاء والرحمة، وهو عالم حقيقي تماما لا اختلاق رومانسي فيه، بل تعقب واقعي لعاشق متسام يكافئه إخلاصه برؤية الحقائق البهية الخافية عن مبتذل العيون، فيما هو يقتفي أثر ما يشغفه من الكون والكائنات. فأي سحر في هذه الكتابة؟

سؤال ما كنت أود أن أتحمل وزره، في رحلة قراءة تحملني إلى الذهاب بعيدا وعميقا في الإحساس بالعالم لا مجرد فهمه، وأظن أن الإحساس ينطوي على حدس هو أعلى من كل فهم، ومع ذلك، ومطاوعة أليمة للسائر من أمور المقدمات، دون استسلام كثير لتراثها، سأحاول الإجابة على السؤال دون أن أضيع حقي في الانتشاء بهذه النصوص كلما عاودت قراءتها، وهي مغرية بمعاودة القراءة، لماذا هي مغرية بمعاودة القراءة؟ وجدتني أوجه لنفسي السؤال فلا أسعى للإجابة عنه، بل أذهب بخاطري إلى نصوص أخرى أحب معاودة قراءتها كلما ضاق بي هذا العالم مزدحم الصخب والخشونة والقسوة، وتوالت الأسماء والأصداء والكتب، وإذ بي أتوقف عند طاغور، وبالتحديد أغنياته، فأعاود قراءتها، وإذ بوميض السحر في أغنيات طاغور يضيء لي كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي هي أيضا أغنيات، ليست كأي أغنيات.

يقول طاغور في أغنية محورية من أغنياته:

"سماء ملأى بالنجوم والشمس
وهذي الأرض تنبض بالحياة
وبين كل هذا، أنا أيضا لقيت مكاني
من هذا البهاء تولد أغنيتي"

ظل هذا المقطع "من هذا البهاء تولد أغنيتي" يتردد في أغنية طاغور وتترجع أصداؤه في نفسي، فأُلامس عَبْرَه كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي لا تقل أبدا في رقيها وتحليقها وعبقها عن أغنيات طاغور، وتوازي بدقة النثر ونصوعه علو السبك الشعري عند شاعر الهند الكبير، ثم يأتي المشترك الأعظم بين طاغور الهندي، وطاغورنا السكندري، والذي أحدس أن فيه سر السحر. إنه إدراك روح الكون والكائنات.

من هذا الانجذاب بالروح إلى روح الكون والكائنات يولد سحر أغنيات طاغور الهندي، وسحر نصوص أحمد الديب، فأحمد الجميل يقدم لنا كل ما يكتب عنه شفيفا فنرى وميض روحه، للون عنده روح، وللفراشة، ولنجمة البحر، ومروق القطار، وابن الحداد، واللافتات، والحجر، وللخطوات، ولليل والفجر، ولكل ما كتب عنه طاغورنا السكندري روح. وأرجح أنه من هذا المدى وصل إلى سر السحر الذي يعيد به تقديم مفردات الوجود المادي لنا. فنكتشف أننا أحياء نحلق في مدارات أفلاك حية، فنحب الحياة، ونحِنُّ إلى الحياة.

مرحبا بأحمد الديب، طاغور السكندري، قيثارة إبداع جميل، تحلق مع شدوها أرواحنا، فنستعيد بعضا مما يسرقه هذا العالم من أرواحنا. ونصير أفضل وأكثر استعدادا للأجمل.

محمد المخزنجي
القاهرة في 12/12/2012

محمد المخزنجي

Mots clés أحمد بعد حكايات النوم الديب طاغور



Aller à la citation


الأسود عندما تأتي للشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر, اذ أن للافتراس وقتنا ونذرا, وللحياة العادية وقت ونذر, ويبدو أن الغدر شيمة بشرية محضة!

محمد المخزنجي


Aller à la citation


« ; premier précédent
Page 13 de 14.
suivant dernier » ;

©gutesprueche.com

Data privacy

Imprint
Contact
Wir benutzen Cookies

Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.

OK Ich lehne Cookies ab