أنني أكبر، وهشاشتي كذلك تكبر معي
ليلى الجهنيما عاد يعنينى أن يفهم أحد اختلافى أو حتى يتقبله، ليس يأساً بل لأنى أدركت أن الفهم الذى أنشده عصى على الأقل الآن، وفى هذه اللحظة. وما دام عصياً، فليس من الجيد أن استنزف طاقاتى فى استجلابه، لأن معظم الناس لا تفهم الا ما تعرف، ويربكها الاختلاف
ليلى الجهنيإنني أكبر وأميل إلى الصمت أكثر فأكثر، صارت تمرضني فكرة الكلام كلها، لم يكن الكلام سلواي في يوم من الأيام، وقد عرفت مبكرة أن بإمكاني أن أحيا أيامًا طويلة دون أن أقول شيئًا، ودون أن أشعر بأن شيئًا ما ينقصني، إن الصمت نعمة هائلة مسلوبة منَّا.
أحيانًا عندما أستيقظ من النوم ثم أطفئ المكيف أغمض عينيّ وأستسلم لصمت غرفتي، وأشعر كما لو كنت لم أعِ بعد، أشعر كما لو كنت أسبح في محيط من عماء أبدي، حيث لا شيء يرف حولي غير الماء ومن فوقه العرش.
أفكر في أننا نولد من الصمت ونؤول إلى صمت لكننا لا نفهم إلا متأخرين أن ضجيجنا وصخبنا ليس أكثر من رفة جناحٍ عابرة، وأنا ما عادت تغريني رفة الجناح!
ما عدت أريد غير الصمت، الصمت الذي ربضت في كنفه الخليقة دهورًا قبل أن يخلق الله آدم وحواء، الصمت الذي تسبح فيه دون قلق كل الأرواح التي انعتقت من قيد أجسادها فغدت خفيفة لينة غير عابئة بأن تُرى أو تُجرح أو تمرض أو تعذب أو تحترق أو تهان، تمضي حرة موقنة بأنها لم تعد قابلة لأن تُمس! ولم يعد ثمَّ ما يجعلها عرضة للألم.تلاشى الجسد وانطلقت هي إلى صمتها القديم، إلى جنةٍ غادرتها وتعذبت طويلاً قبل أن تعود إليها
أنني أكبر، لكن هل نضجت بالقدر الذي يستحقه عمري؟لا أدري، كل ماأعرفه الآن أنها حياتي، وذلك ما حديث
ليلى الجهنيتوقظنى أحلامى وكوابيسى أحياناً، وفى أحيان أخرى توقظنى أفكارى، ويوقظنى أن أهجس بمصيرى ومصائر أحبتى،وكم يرعبنى أن أفكر بمصائر من أحبهم، فى الموت الذى قد يأخذهم، فى المرض الذى قد يلحق بهم، فى الخيبة التى قد تفتت قلوبهم، فى العجز الذى قد يقعدهم، وأعرف ليس بيدى أن أمنع عنى وعنهم ما ينتظرنا، لكن ليس بيدى أن لا أهجس بكل ذلك فلا أنام.
ليلى الجهنيعجزت أن أتبلد فى مواجهة تهتك الحياة. عجزت عن أن لا أشعر فى مراتٍ كثيرة بأننى فى المكان والزمان الخاطئين؛ ليس لأننى أفضل أو أحسن، بل لأن طباعي وأفكاري وطريقتي فى أن أحيا حياتي لا تناسب هذا المكان، ولا هذه اللحظة العصية من الزمان. إننى أكبُر، وأحسد كل من نجا من شرك الوعي الحاد.
ليلى الجهنيفى حياتى اليومية يمكن لى ان أكون مع الناس لبعض الوقت، لكن الذى ينهك روحى أن أكون مع الناس طول الوقت، أو لفترات طويلة. طول الحضور يجعل المرء بالنسبة لى باهتاً مثل قماشة تركت تحت الشمس طويلاً، فغابت بهجة ألوانها، وغاب حتى وقع ملمسها الحقيقى، ولم تعد اكثر من شىء كان، وما أكثر الناس التى كانت
ليلى الجهنياننى أكبر. وأنفق جُل وقتى كى أفهم الزمن، فلا أفهمه، وكيف أننا نحيا ونعجز أن ندركه كما ينبغى له؟ أين تذهب كل أعوامنا التى تغادرنا؟ ولم لا يمكن أن نحتفظ بها فى مكان كثيابنا وأشيائنا العتيقة؟ اننى أكبر واتساءل طول الوقت: أين تذهب الأيام الجميلة؟ كيف تبدأ؟ وكيف تجف كأن لم تغن بالأمس؟ وكيف يمضنى الحنين اذ يعيدنى اليها ولا يعيدهل الىّ؟
ليلى الجهنينحن لا نبذل مجهوداً كى نبلغ عمراً ما، بل نبلغه لأننا نبلغه وهذا هو ما يحدث، لكننا مسؤولون عن أن نبلغه بما يليق به، أو على الأقل بذخيرة تليق به، فهل ما أملك من الذخيرة ما يكفى؟ هل شبعت من حياتى؟ هل فهمت تعقيدها وحساسيتى إزاء هذا التعقيد؟ اننى أكبر، لكن هل نضجت بالقدر الذى يستحقه عمرى؟ لا أدرى، كل ما أعرفه الآن أنها حياتى ، وذاك ما حدث
ليلى الجهنياننى أكبر، وأتخيل أحياناً أن حياتى مشهد قصير فى فيلم طويل، تعرضه صالة عرض شبه خالية، ويشاهده انسان وحيد مرة ثم يمضى عنه. مشهد لا حوار فيه لأن الكلمات تقصر عن أن تحكيه أو لأنها بصورة ما تفسده، مشهد مثل مشهد إديت بياف فى فيلم La Mome وهى طفلة تجلس الى طاولة وتأكل من طبق أمامها، فيما يدخل عليها أبوها، ثم يستل دمية من تحت سترته كى يقدمها لها باسماً. دمية منهكة لطفلة أشد انهاكاً تبتسم لخير ضئيل، خير غير متوقع، خير غير مشروط، يحدث مرة واحدة فيما يبقى الى الأبد
ليلى الجهني« ; premier précédent
Page 5 de 12.
suivant dernier » ;
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.