وأنا إنسان لا أستطيع الكذب على نفسي ولا على الآخرين
سليم عبد القادركل شيء تغير في المحكمة، وكل نفس تفاعلت مع الموقف بشكل أو بآخر، الإخوة المنكمشون على أنفسهم أحسوا بقوتهم ورفعوا رؤوسهم عالياً… القاضي ومن معه وعناصر الأمن أحسوا بصدقه واحترموه
كانت العيون الشاخصة إليه، تفصح عما في الصدور من غبطة وإعجاب
- كلهم بخير، لقد تغير الجميع تماماً، وما عادوا يهابون شيئاً، لقد نذرنا أرواحنا في سبيل الله.
- إنه تطور خطير..
لكنه طيب…
ساد صمت وتأثر بعد تلك الكلمات… لأول مرة منذ دخل السجن، أحس بقوة الحق، وجلاله، وهيبته، وروعة التحرر من الخوف… ورأى بعينيه ثمرة ذلك: الإكبار، والإعجاب من الجميع… أمر لم يكن في حسبانه… قال القاضي وهو يهز رأسه:
- عد إلى مكانك.
أعيد السجناء إلى سجنهم نفسه، وتكرر لقاء حار مع الذين ودعوهم قبل ساعتين، وكان فرح غامر، مثلما يفرح المرء بشيء ثمين فقده فجأة ووجده فجأة.
سليم عبد القادر- أنا عنصر في جماعة الإخوان منذ سبع سنوات، ورغم أن والدي –رحمه الله- كان من الإخوان، إلاّ أنني اخترت دربي بعيداً عن تأثيره، فقبل ذلك انتسبت إلى شبيبة الثورة، وأصبحت رفيقاً، فرأيت هناك الانتهازية والعبث واللاأخلاقية، وأنا إنسان لا أستطيع الكذب على نفسي ولا على الآخرين، فتركت الشبيبة، واطلعت على فكر الإخوان ودرسته فاقتنعت به، والتزمت بالجماعة، وأنا أعرف سلفاً ما يكمن في طريقي، وأنا على استعداد لدفع الثمن ولو كان أعصابي وحياتي، وأنا غير نادم على اختياري… كانت حياتي عادية جداً ، إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم، فمن غير توقع، وحين كنت أتقدم للامتحانات في الجامعة، انتهك رجال الأمن –كالعادة- حرمة الجامعة، واقتادوني إلى سجن أمن الدولة، وهناك… لم أكن أتصور أن الإنسان مهما انحط وأسفَّ يمكن أن يصل إلى ذلك الدرْك السافل الذي لا يمكن أن تصل إليه وحوش غابات الكونغو…كان التعذيب غاية في الشراسة والتمتع بهتك قيم الإنسان، فإذا كان في هذا المجتمع مجرمون، فأولئك هم المجرمون الحقيقيون، فحاكموهم بدلاً من أن تحاكمونا.
كان يتصور أن القاضي سينفجر غضباً، ولكنه فوجئ بإنصات شديد من الحاضرين، وبارتياح بدا في وجوههم، وقال القاضي بهدوء: ولكنك متصل ببعض المسلحين.
أجاب: صلة صداقة قديمة، لا صلة تنظيم… لم أمارس العنف، ولو كنت مقتنعاً به لمارسته، ولما وجدتني أمامك الآن، وأنا لا أقول هذا خوفاً منك ، فأنا لا أخاف منك ولا من غيرك، ولكنها الحقيقة.
- وفكرة الهجوم على أمن الدولة!؟.
- كانت مجرد كلام… صرخة في وجه الظلم والعجز.. كل الناس يصرخون، وينتقدون بعنف.. وأنتم تعرفون ذلك… ولا يوجد قانون في العالم يحاسب الإنسان على شوارد فكره، أو فلتة لسان في ساعة غيظ وقهر… إلاّ إذا كان هذا القانون موجوداً هنا!.
- لا، أبداً.
- اتفقنا إذن.
ابتسم القاضي وقال: أتحب أن تضيف شيئاً؟.
- كان في جعبتي الكثير، ولكني أكتفي بأن أقول لكم: إن هذه الأرض إسلامية، فتحها المسلمون بدمائهم، ولن يقبل أحد بأن تصبح الدعوة إلى الإسلام فيها جريمة، أو النشاط الإسلامي تطرفاً، وأختم كلامي بقول شيخ الإسلام ابن تيميه –رحمه الله- : ما يصنع أعدائي بي –وأرجو أن لا تضعوا أنفسكم في موطن العداء لي- أنا جنتي وبستاني في صدري ، سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة… وبالنسبة لي فالحكم بالإعدام أو السجن المؤبد أو البراءة، كلها سواء، ولكنها مسئوليتكم، ولا تنسوا أنكم ستقفون يوماً بين يدي الله، شئتم أم أبيتم، فحاولوا إنقاذ أنفسكم.
وقال محمود: مهما تكن الوسيلة والنتيجة، فلا بد من الهرب.
وتساءل في نفسه: أهو أمر ممكن!؟ أم هوتعبير عن اليأس!؟.
أشكر السيد محامي الدفاع على خطبته الحماسية، وإن كنت أتمنى لو أنه أعفى نفسه وأعفانا من سماعها، لأن أقل ما يقال فيها: إنها كلام جرائد وإذاعة، مما لم يعد له تأثير في هذه الأيام، بل أصبح الناس يمجّونه… ثم إن حضرة المحامي وقف يدافع عن الرئيس مع أنه غير متهم هنا، وكان الأولى به أن يدافع عن موكليه دفاعاً مناسباً… أما عن دفاعه الذي تقدم به، فأنا أرفضه… ونحن –والحمد لله- مسلمون واعون مختارون طريقنا على بصيرة، ولسنا مضللين ولا مخدوعين ولا أغراراً.
سليم عبد القادر...مرة أخرى القدر يقول كلمته بوضوح
سليم عبد القادر- والشباب أين ذهبوا بهم!؟.
- لا أدرى.
في المساء جاء طاهر مكفهر الوجه، بادي العبوس، تنطق عيناه بالقهر والألم… سأله محمود:
- خير إن شاء الله، ما الأمر!؟.
أجاب بلسان مثقل بالكارثة:
- لقد صار الشباب في سجن تدمر .
- السجن الصحراوي الرهيب!؟.
- نعم.
وأحس كل سجين بأن صاعقة قد نزلت برأسه.
« prima precedente
Pagina 2 di 3.
prossimo ultimo »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.