وقد خلق هذا الوضع نوعا من الانسداد في الوعي العربي الاسلامي الذي يرفض تطوير القديم خوفا عليه, ويقف حائرا امام المعطى الاجنبي الذي يخاف منه. ومن هذا الانسداد سيتغذى التعصب بالمعنى السلبي للكلمة, اي معارضة الآخر بالرفض المحض والسلبية واستخدام الهيجان مكان التأمل والتفكير والحوار الذي ميز العقود الاولى لليقظة. هذا التعصيب الفكري هو اليوم صفة مميزة للانسداد العقلي.
برهان غليونووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.
برهان غليونفمع الزمن وتطور البنيات الحديثة للجماعات الاسلامية برزت اكثر فاكثر الخصائص القومية في الاقاليم الاسلامية واصبحت عاملا اساسيا مكونا للشخصية وللوعي المحلي. كما زاد تأثير الدهرية نفوذا لدى الطبقات العليا والوسطى مع تناقص فاعلية الاعتقادات الدينية وتأثيرها على مجرى الحياة اليومية والانتاج. ونتجت عن ذلك هوة بين الانتماء الديني والانتماء الجنسي. وهناك الكثير من المسلمين الذين لا يتعرفون على انفسهم في الثقافة الاسلامية اليوم الا بشكل سطحي.
وهذا نتيجة توسع انتشار الثقافة الغربية الحديثة وبسبب السياسة الثقافية التي بدأت تمارسها الدولة الاسلامية والعربية منذ القرن التاسع عشر.
لكن من جهة اخرى لم تتحقق ايضا واقعيا الاسس الموضوعية الفعلية لقيام ذاتية دهرية تتجاوز الدين والطائفية وتدفع الى نشوء مشاعر تضامن محلي قومي بغض النظر عن الاصول الاجتماعية او المذهبية. وكان يمكن لمثل هذه الذاتية ان تتطور فعليا لو تحققت دولة عربية واحدة كفيلة بتطوير ثقافة عربية مشتركة ومتجددة تقوم على المساواة الفعلية وتكافئ الفرص بين افراد الجماعة. لكن الوعي الدهري ظل محصورا في فئة اجتماعية ضيقة او انه بقي لدى الطبقات الوسطى قشرة بسيطة تغطي الوعي الديني الجماعي السابق.
برهان غليونفي النظام القديم كان تناوب الشيعية والسنية, والمعتزلية والاشعرية, ثم الضغط الدائم للمذاهب الصوفية الشعبية وللحركات الباطنية يعكس حيوية النظام السياسي الاسلامي باكثر مما يعكس القمع والتعصب الدينيين. ولم يكف هذا النظام عن عكس الحركة الداخلية السياسية الا مع الانتصار النهائي للسنية العثمانية في معظم الاقطار الاسلامية والعربية. لكن هذا الانتصار لم يستطع مع ذلك ان يختم سلسلة النضال الداخلي الا لأن الإسلام كدولة وحضارة كان قد بدأ يتراجع.
عندئذ بدأت حركة الانغلاق الذاتي والفكري. وهذا هو الامر الذي قاد فيما بعد الى انفجار الدولة العثمانية التي عجزت في نهاية القرن الثامن عشر عن ان تبث في النظام السياسي الحيوية التي كان بحاجة اليها.
وفي كل مرة كان ينتصر فيها احد الاتجاهات كان يفرض على الاتجاه المعارض تسوية تضعه في موضع الاقلية المشروعة. ولم تكن المعارضة مقبولة اذن الا ضمن نطاق الارض المنزوعة السلاح للمجتمع المدني, وفي حدود استبعادها من السلطة.
لا تكون الجماعة الا بالعصبية اي بشعور التضامن والتلاحم الجماعي تجاه الجماعات الاخرى. وهذا اساس سلوكها على الساحة الدولية كجماعة متميزة ومستقلة ذات ارادة واحدة ومصالح مشتركة. وتكوين الجماعة لا يقوم على زرع روح العصبية ولكنه يقوم على اسس موضوعية سياسية واقتصادية هي التي تولد الشعور بالتضامن والعصبية التي تصبح هي ذاتها درعا نفسيا يصون وحدة الجماعة واستمرارها.
برهان غليونوقد تم ولا شك ابعاد الدين عن السلطة لدى تكوين الدول العربية التي تبنت بشكل عام والى حد كبير المبادئ والقوانين الوضعية الا فيما يتعلق بالحقوق الشخصية. لكن بقدر ما عجزت الفكرة القومية عن انشاء ذاتية ووعي جديدين دهريين جماعيين جاء هذا الابعاد بنتيجة معاكسة هي تعميق دور الدين في السياسة ولان عدم المساواة زاد ولم يتراجع, ولان الظلم والاستبداد تعاظم ولم يندثر, ولان الثقافة الحديثة رفعت الى السلطة فئة قليلة وجديدة وابعدت الى الهامش كل الجماعات الاخرى, اخذت السياسة الوضعية ذاتها تستنفر الدين وتعتمد عليه. لم يعد الدين هو السياسة التي تطلب العدل والاعتدال والتسامح والاخوة, ولكن السياسة التي اخذت تتغذى بالنزاع والصراع هي التي بدأت تستخدم الدين وتؤسس للآلية الطائفية.
برهان غليونان ابعاد الدين عن السلطة اعطى للاغلبية الاسلامية الشعور بالتحول الى اقلية ثقافية, وجعل ردود افعالها على هذا الصعيد ردود افعال الاقلية الحريصة على هويتها المهددة والطامحة باستمرار الى تاكيد هذه الهوية على الصعيد الثقافي نظرا لعجزها عن تأكيدها على الصعيد السياسي.
وهذا هو الميل العام والسياسة العميقة لكل اقلية مبعدة عن السلطة السياسية المباشرة. ان المطالبة بالهوية قد اصبح مطالبة بالمساواة ومن هنا ازدياد اهميتها السياسية.
وهكذا ايضا تم الاغتراب الذاتي لدى الجماعة الدينية والدهرية معا. فقد ظهرت الدولة الدهرية في نظر المسلمين وسيلة لفرض سلطة متهاونة مع الاجنبي ومتعاملة معه. بينما ظهر استمرار اشتغال السياسة الاسلامية بالدين في نظر الدهريين كرفض للاتفاق القومي وكتهديد للدولة القومية الحديثة.
برهان غليونبقدر ما يزداد الطابع الدهري للدولة يزداد الطابع الطائفي للامة والسلطة. والملوك والسلاطين الاكثر دهرية في حقيقة نفوسهم وفي ممارساتهم هم الاكثر ميلا للاستسلام, في السياسة , للاهواء الطائفية. فالمثالية وروحها الدينية المطرودة, كروح شريرة من الدولة, لا تلجأ الى الشعب الا كي تعد تحولها المقبل وتقمصها الشيطاني من قبل السلطة. وهكذا تجد الامة المشدودة بين دولة المتفوقين وحقارة الهابطين وحدتها التاريخية المنجاة دائما الى تأكيد في الحروب الطائفية والنزاعات المحلية.
برهان غليون« prima precedente
Pagina 5 di 9.
prossimo ultimo »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.