لعل أخطر ما يجابه أي تجربة في التحول الديمقراطي هو التعامل مع الأفكار بصرف النظر عن نوعها ومصدرها- كمطلق ينبغي تكراره; وأعني من حيث ما تنطوي عليه الإطلاقية, عموماً, من الإهدار الكامل للفكرة الإنسانية.
وإذا كانت الفكرة الدينية هي الأكثر إغراء بالتعامل معها كمطلق, فإن تحليلاً لظاهرة الدين والوحي, علي العموم, ينتهي إلي وجوب الوعي بدخول العنصر البشري, علي نحو حاسم, في التركيب المنطقي واللغوي والتاريخي لتلك الظاهرة; وعلي النحو الذي يستحيل معه استيعابها خارج تحديدات الشرط الإنساني أبداً
الشرط الإنساني هو الأساس المنطقي للانتقال من لحظة إلي أخري في تركيب ظاهرة الوحي( حتي لا يصار إلي رد هذا الانتقال إلي تغيرات تطرأ علي الذات الإلهية كمصدر للوحي), فإن تنزيل الوحي داخل لغة ما( واللغة ليست محض وسيط اتصال محايد, بل نظام تفكير كامن خلف الألفاظ والعلاقات التي تقوم بينها), إنما ينطوي علي تحدد الوحي بهذا النظام الكامن. ومن جهة أخري, فإن كون الوحي يكون حواراً مع واقع المخاطبين به, إنما يكشف عن تحدده بما يمثل تاريخهم الحي. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الوحي لا يفرض نفسه كبنية مغلقة ومطلقة تعلو علي البشر( تفكيراً وتاريخاً), بل كتركيب يقوم علي الحوار المفتوح مع تاريخهم ونظام تفكيرهم. وهكذا, فإن الوحي الذي يتخفي الكثيرون وراءه من أجل تثبيت رؤاهم الخاصة كمطلقات لا تقبل التجاوز, يبين- هو نفسه- عن روح تخاصم الأطلقة وتأباها.
وللمفارقة, فإن ذلك يعني- بوضوح وصراحة- أن الوحي ليس هو الأصل المنتج للأطلقة( كآلية تفكير تسود فضاء التفكير العربي من دون تمييز بين تراثي وحداثي), بقدر ما هو أحد أكبر ضحاياها
لا يكاد العرب ــ وربما المسلمون ــ يتوقفون، علي مدي القرون، عن اختراع حوامل يعلقون عليها انقسام عالمهم وتشظيه؛ وبما يعنيه ذلك من أن الأصل في العالم هو الانقسام والتباعد.
وهذا النوع من الانقسام هو أحد نتاجات رؤية للعالم استقرت وغلبت داخل التراث الإسلامي؛ وذلك مع ملاحظة أن تلك الرؤية للعالم تعد من رواسب ومخلفات عالم القبيلة الذي جاء الإسلام، في سعيه إلي بناء عالم جديد، لكي ينفيه ويرفعه، لكنه استمر حياً وفاعلاً في وعي العربي حتي الآن، علي الرغم من غياب القاعدة المادية الحاملة له في الواقع. إن ذلك يعني أن (القبلية) تستمر فاعلة في الوعي الراهن؛ ولو كرؤية محفزة للانقسام والتفكك، وذلك علي الرغم من غياب الحامل الواقعي لتلك الرؤية ( الذي هو القبيلة)
Tag: islamic philosophy-of-religion
إن الانقسام بين السنة والشيعة لا يستعاد بوصفه انقساماً بين فرقاء اصطرعوا علي السلطة واقتتلوا حولها, ثم راحوا يرتفعون بأصول اختلافهم من الأرض إلي السماء; حيث أخفوا الأصل السياسي الذي يتنازعون حوله وراء قناع ديني سميك. وقد كان الواحد من هؤلاء الفرقاء يسعي, من وراء هذا التعالي إلي السماء, إلي تحصين مواقفه وتثبيت اختياراته أو انحيازاته, عبر ما يخلعه عليها هذا التعالي من سمات الديني' المقدس' وينأي بها عن الارتباط بالسياسي' المدنس'.
والمهم أن ما كان مجرد انحيازات تحتاج إلي التعرية والفضح يتحول, عبر هذا التعالي, إلي' معتقدات' يتقاتل الناس ويموتون تحت راياتها المقدسة. لا تستعاد تلك الجذور الدفينة للخلاف أبدا, بل إنه يستعاد بما هو خلاف يقوم أصله ومنتهاه في السماء; وأعني فيما هو ديني محض, حيث يجري التغييب الكامل لكل ما هو سياسي وواقعي.
Tag: political-philosophy
يلزم التنويه بأنه إذا كان التطرف والاعتدال هما محض طريقتين في الاشتغال يتسع لهما خطاب تديين السياسة، فإن ذلك يعني أنهما من قبيل العارض الذي لا يؤثر في حضور المشتغلين بهما معاً تحت مظلة ذات الخطاب الواحد. وبعبارة أخري، فإن الفارق بينهما يتعلق بمحض الإجرائي السطحي، وليس بالبنيوي العميق، أو أنه من قبيل الفارق في الدرجة، وليس النوع. وتبعاً لذلك، فإنه لن يكون بمقدور أحد التبرؤ من العنف الواقع تحت مظلة هذا الخطاب، باعتبار أنه مجرد ممارسة منحرفة لأفراد غير أسوياء؛ لأن هذا العنف- في حقيقته- لا يتعلق، فحسب، بما يقصد إليه الأفراد، بل يرتبط- وهو الأهم- بضرورات منطق الخطاب
علي مبروكولسوء الحظ, فإن العنف- في كل أشكاله الناعمة والدامية- يكاد أن يكون أحد أهم المآلات التي لابد أن ينتهي إليها الخطاب الرامي إلي تديين السياسة. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن التفكير في السياسة أو ممارستها بالدين, يحيلها إلي جملة مطلقات سوف يجد البعض أن لا سبيل لتسكينها في الواقع- علي فرض إمكان ذلك- إلا بالإكراه والقسر.
وعلي الدوام, فإنه يبقي أن العبرة هي بالمصائر والمآلات التي تقتضيها أنظمة الخطابات, وليست بالمقاصد والنيات التي تسكن نفوس الأفراد
يحتاج دارس التراث إلى متابعة الممارسات الذهنية للإسلامويين وطرائق تفكيرهم، لأنها ستساعده في فهم الطريقة التي تأسست بها سلطة الخطاب المهيمن في التراث. كما أنه سيدرك أن ما يغلب على خطاب الإسلامويين من التفكير بالتمثيل والصورة بالأساس، إنما يرتبط بالطبيعة السلطوية لهذا الخطاب. ويقوم هذا الضرب من التفكير على استدعاء أحد مراكز السيادة العليا في الإسلام (كالنبي مثلاً) ليكون طرفاً في تمثيل يكون طرفه الآخر هو الشخص الذي يُراد بناء سلطته (الرئيس مرسي أو غيره مثلاً). وإذ يفعل الخطاب ذلك فإنه يجعل السلطة الرمزية لمركز السيادة الأعلى تعمل على حراسة السلطة المهددة للطرف الآخر. وبالطبع فإن هذا الضرب من التفكير بالتمثيل والصورة يرتبط بطفولة الإنسانية وقصورها العقلي؛ حيث يحيل العقل إلى إنسانية لم تعد تقبل بتماثلات الخارج (الأشباه والنظائر)، وتلح على إدراك ما يرقد تحت السطح الظاهر؛ حيث لا تمثيل، بل تفكيك
علي مبروكإذا كان تفكيك التجربة التاريخية للإسلام يتكشَّف عن أن السياسي لم يستقل بمجال اشتغال خاص عن الديني؛ وإلى حد ما لاحظ ابن خلدون من "أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة"، وبما يعنيه ذلك من أن المُلك السياسي للعرب قد راح ينبني داخل الديني ويتجذَّر في قلبه منذ لحظة التأسيس المبكرة الأولى؛ فإن أهم ما يترتب على ذلك هو ما يبدو من تصور المرء أنه يسلك بحسب ضرورات "الديني" وفروضه، فيما هو يسلك حقاً تبعاً لقواعد "السياسي" المتقنِّع بالديني والمتخفِّي في قلبه.
وهنا تكمن المعضلة التى تتعصى على الانفراج في عالم الإسلام؛ وأعني معضلة التمييز بين الديني والسياسي، والتي تتأتى ابتداء من عدم اختصاص الواحد منهما بمجال خاص يشتغل داخل حدوده، وذلك على العكس من اختصاص كل منهما بمجال يخصه في عالم المسيحية؛ الأمر الذي جعل، لا مجرد التمييز، بل الفصل بينهما ممكناً
Tag: politics philosophy-of-religion
وفيما يخص الالتباس المتعلق بالموقف من الحداثة, فإن الأصل فيه يأتي من أن أحدا لم يلتفت- بما يكفي- إلي استقصاء السياق الفكري والمعرفي الذي تبلور فيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين, وتيار الإسلام السياسي علي العموم, وذلك علي الرغم من غزارة الالتفات إلي السياق السياسي والتاريخي الذي أدي إلي ظهور كل منهما; والذي يتمثل في إعلان سقوط الخلافة في العام1924, بالذات. ولعل المدخل إلي الوعي بهذا السياق المهمل, ينطلق من الإقرار بأن تيار الإسلام السياسي- وضمنه جماعة الإخوان- هو جزء من صميم ما يعرف بظاهرة الحداثة العربية; وإلي حد إمكان القطع بأنه لو أمكن تصور غياب ظاهرة الحداثة علي العموم- والنمط العربي منها علي الخصوص- لما كان لتيار الإسلام السياسي أن يتبلور من الأساس. ويعني ذلك أنه يستحيل استيعاب ظاهرة الإسلام السياسي خارج القوانين والمحددات التي حكمت انبثاق وتطور ظاهرة التحديث في العالم العربي منذ العقود الأولي في القرن التاسع عشر. وبالطبع فإنه لا يؤثر في ذلك ما يجري الإيهام به من أن الإسلام السياسي يبغي استبدال الإسلام- كمنظومة حياة- بالحداثة, من أجل استرداد ماضيه الذهبي السابق عليها; حيث الأمر لا يتجاوز مجرد استخدام الإسلام والحداثة معا من أجل بناء وتثبيت أيديولوجيا سياسية, لا تختلف عن غيرها من أيديولوجيات مناوئة إلا من حيث نوع القناع التي تتخفي خلفه
علي مبروكوضمن هذا السعي إلي الإمساك بالدولة, فإن دعاة الإسلام السياسي لا يختلفون- من جهتهم- عن غيرهم من الذين عملوا, من جهة أخري, تحت رايات الأيديولوجيات التحديثية( الليبرالية والقومية والاشتراكية وغيرها). وأعني من حيث إنهم جميعا يراوحون تحت مظلة ذات الأطروحة التي لا تري للتغيير سبيلا إلا بتسكين الجوانب التقنية الإجرائية من الحداثة فوق ذات البنيات التقليدية المتوارثة للوعي التي تحتفظ للجمهور بوداعته وهدوئه وطاعته. وفقط فإن الاختلاف بينهما يأتي من نوع المفردات التي يستخدمها كل فريق في سعيه إلي الهيمنة علي المجال العام. إذ فيما ظل دعاة الأيديولوجيات الحداثوية يستخدمون المفردات المتداولة في إطار الأيديولوجيات التي يبشرون بها( من قبيل الحرية والديمقراطية والدستور والاشتراكية والطبقة العاملة والقومية وغيرها); والتي لم يقدروا علي السيطرة بها علي المجال العام لعدم امتلاك الجمهور- المقصود التأثير عليه بها- للتراث المعرفي والتاريخي الذي تقف عليه هذه المفردات, فإن دعاة الإسلام السياسي يستخدمون مفردات تنتمي للرأسمال الرمزي الديني للجمهور للسيطرة علي المجال العام( من قبيل الشريعة والحكم بما أنزل الله وتطبيق الحدود وغيرها); وبما سيجعل من دولة الإسلام السياسي, الدولة التنين فعلا
علي مبروكTag: politics religion political muslim-brotherhood
« prima precedente
Pagina 2 di 3.
prossimo ultimo »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.