ازداد تطور العقيدة الدينية المنظّمة والقابلة للصوغ والشرح والتلقين والحفظ كلما تطوّر الفكر, وكلما تنامت الريبيّة ومعها طرح الأسئلة والاجوبة عنها التي تحاول أن تنسق مقولات الدين (اللاهوت وعلم الكلام).
لذلك تكاد العقائد والمنظومات المركّبة تطغى فيها على الأصل الإيماني الشعوري. ويرى أمثال وليم جيمس أن الشعور الإيماني على الرغم من ذلك يبقى الأصل وهو الجوهري.
تكمن أهمية التديّن في النهاية في العادي اليومي لا في الاستثنائي وغير العادي في التجربة الدينية.
عزمي بشارةفي عالم حديث يُعرف فيه الدين, وتُحدد حدوده, ما عاد الدين هو الحالة الثقافية العامة التي يُعبر بواسطتها عن التغيّرات الاجتماعية والسياسية. قد تتولد في مثل هذا العالم تعبيرات جديدة عن المقدس بأدوات جديدة. لكن لا تنشأ ديانات جديدة. وبهذا المعنى فإن المؤسسة الدينية التي "تحرّم" المس بالدين تقوم في الوقت ذاته بأمور ثلاث:
إنها تحافظ على الديانات القائمة, كما انها تؤكد انفصال بقية القطاعات الاجتماعية عنها, كما تمنع ديانات أخرى من المس بها.
سوف نعالج هذا الموضوع لاحقا, ولكن يمكننا هنا أن نثبّت أن هذا الوصف يؤكد أن المؤسسة الدينية بوظيفتها هذه تساهم في عملية العلمنة. هنا تجري تثبيت الديانات القائمة في حدودها بعد أن انحسرت في مجالات اجتماعية مختلفة.
هذا هو الأصل في أن نقد العلمنة الذي تتولاه التيارات الأصولية يتضمن دائماً نقداً للمؤسسة الدينية من الحركات الأصولية, بغض النظر عن نوع الانتقادات العينية التي تساق ضدها. فالأصوليون في كل مرحلة يشعرون ويتصرفون تجاه المؤسسة الدينية, بوعي أو دون وعي, كأنها تجسيد لحالة انفصال المقدس عن العالم, وطبعاً قبل أن يدركوا ان غضبهم ذاته, وهو ما أكنيه انفعالاً تاريخياً, يشكل تجسيداً لهذا الانفصال أيضاً.
من هنا فإن ردة الفعل الرافضة للفصل تشمل في نقدها عادة المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة بغض النظر عن الحجج التي تساق عن فسادها أو انشغالها بالمظاهر, وابتعادها عن جوهر الدين, واستخدام الدولة لها. فالمؤسسة الدينية هي تجسيد لانفصال المقدس عن الدنيوي إلى درجة الاستكانة لفكرة "فصل الدين عن الدولة".
العلمنة" إذا صح استخدامها مفهوماً هي جزء من عملية فصل متدرجة للديني عن الدنيوي, وللمقدس عن العادي, ولله عن العالم, بما في ذلك, وبمصطلحات فيبرية, "طرد السحر" من مجال حياتي بعد آخر ومن تجربة إنسانية بعد أخرى, وعقلنة مجال بعد آخر. فالعلمنة صيرورة, ومن السذاجة قصرها على مفهوم أو عملية فصل الدين عن الدولة, أو قصرها على آخر تجليات هذا الفصل, وهو خصخصة القرار في الشأن الديني, وتحييد الدولة عن قرار فرد أو اتحاد من الأفراد في هذا الشأن
عزمي بشارةيتحوّل لفظ "الشعب" بمعنى ما إلى دلالة على فرد أسمى, أو جماعة مقدسة يحمل اسمها الرهبة والهيبة على الأفراد في ما بعد. حتى في السياق الدنيوي العلماني يحمل لفظ "شعب" هالة ما من القداسة بشكل قبليّ, ولا سيما في حالة شعوب هذه المنطقة حول المتوسط وما تأثر بها من حضارات.
عزمي بشارةفالعموم بمعنى القانون في الدولة يحل محل الله في عملية العلمنة وربما كان أساسه فكرة الله. وفي رأينا أن هذا هو اساس الصراع في العلمنة بين الدولة والمؤسسة الدينية على مسألة تمثيل العموم والصالح العام. وهو توتر قائم بين الدولة والمؤسسة الدينية في كل مكان, لكنه يحتد في الثقافات التي عرفت في تاريخها هذا التطابق بين حق الله والصالح العام.
عزمي بشارةهنالك حقيقة راسخة وهي أنه لم ينجح توظيف الحاجة إلى المقدس, في تقديس الأمة او الشعب او الطبقة او غيرها في إقامة ديانات جديدة. لقد أغنت كثيرا من الناس عن الدين, او اضافت إلى تدينهم مجالات جديدة يجري التعامل معها بتقديس, لكنها لم تنجح في إنشاء ديانات جديدة.
وفشل المحاولتين الكبيرتين, المحاولة الشيوعية والمحاولة النازية في مجال التحول إلى ديانات بأتباع دائمين وبمؤسسة دينية ثابتة هو فشل مدو.
للمفارقة, غالباً ما يلتقي العلمانيون المتطرفون وخصومهم من المتدينين الذين يطلق عليهم اسم "الأصوليين" في هذا التجاهل للدين الحقيقي الاجتماعي القائم.
في حالة الإسلام مثلاً نجد أن ما يجمع الإسلاميين المتطرفين وخصومهم على حد سواء هو تجاهل واقع الإسلام في حقيقته الأنثروبولوجية, أي كما يمارسه المسلمون بشكل عيني, أي باعتباره حقيقة عينية على الأرض. فهؤلاء ينفون الشرعية الإسلامية عنه, ويدّعون أنه ليس الإسلام الحقيقي الصالح, ويقفزون عنه إلى عقيدة أخرى غير الاسلام المعيش الذي اصطلح عليه المسلمون, أو يصطلحون عليه. والآخرون يدّعون أنه من عناصر الفساد والتخلف أو يدّعون أنه مجموعة خرافات وأباطيل, أو يقللون بالمجمل من أهميته ويعتبرون تضخيمها أمرا مصطنعا.
أدى ذلك عملياً إلى اهمال دراسة التدين الشعبي والتدين عموماً في واقع المجتمعات الإسلامية, كما أدى إلى تجنب دراسة دوره الفعلي الواقعي في المجتمع والأخلاق والسياسة. ويتحمل مسؤولية هذا الإهمال أصحاب الفكر الإسلامي وأصحاب الفكر العلماني على حد سواء.
المقدس (أكان شعوراً إنسانياً متوارثاً تقليدياً من زاوية نظر الباحث أو واقعاً حقيقياً متجاوزاً في إيمان المؤمن) هو شرط الدين الأصلي, لكن الدين يخرج عن أصله ويصبح شرط ذاته حين يتحول إلى ظاهرة اجتماعية في صلبها عقيدة يعتنقها بشر وتقوم عليها مؤسسة.
عزمي بشارة« prima precedente
Pagina 5 di 7.
prossimo ultimo »
Data privacy
Imprint
Contact
Diese Website verwendet Cookies, um Ihnen die bestmögliche Funktionalität bieten zu können.